خــيرُ الـــزَّاد - جمعية مركز الإمام الألباني للدراسات والأبحاث

خــيرُ الـــزَّاد

  • محمد موسى نصر
  • 25/06/2018
  • 611

قال -تعالى-: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ}.
وجمهور المسلمين على أنّ الأشهر المعلومات هي: شوال، وذو القعدة، والعشر الأول من ذي الحجة، فهي التي يقع فيها الإحرام بالحج غالباً(1).
والمعنى: أن مَن أحرم في هذه الأشهر فقد أصبح الحج فرضاً عليه ولو كان نفلاً، واستدل بهذه الآية: الشافعي ومن تابعه على أنه لا يجوز الإحرام بالحج قبل أشهره(2).
فإذا أحرم الحاج بالحجّ أو العمرة فيجب عليه أن يصون حجّه ويحفظه عما يفسده أو ينقص ثوابه، فعلى كلّ مسلم أحرم بالحجّ أن يعظِّم شعائر الحجِّ؛ لأنّها  من شعائر الله ، قال -تعالى-: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ}.
 ولهذا نهى الله -تعالى- عن (الرفث)، و(الفسوق)، و(الجدال) في الحجِّ.

قال ابن عباس: الرفث: «غشيان النساء، والتقبيل، والغمز، وأن يعرّض لها بالفحش من الكلام»، وقال طاووس: «الرفث: التعريض للنساء بالجماع وذكره بين أيديهن»، وقال عطاء: «الرفث قول الرجل للمرأة في حال إحرامها: إذا حللت أصبتك، إلى غير ذلك من معانٍ قريبة»(3).


وأما الفسوق فأصله الخروج عن حدود الشرع وعن الطاعة، فابن عباس ومن وافقه يقول: «الفسوق: هي المعاصي»، وابن عمر يقول:«الفسوق: إتيان معاصي الله في الحرم»(4).
وقال آخرون: الفسوق هاهنا السباب، وهذا قول ابن عباس وابن عمر وابن الزبير ومجاهد والسّدي وغيرهم؛ متمسكين بما ثبت في «الصحيح»: «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر»(5).
وقد رجّح الحافظ ابن كثير أنه المعاصي، فقال:«والذين قالوا: الفسوق هاهنا هو جميع المعاصي، والصواب معهم، كما نهى -تعالى- عن الظلم في الأشهر الحرم، وإنْ كان في جميع السنة منهياً عنه، إلا أنه في الحرم آكد، ولهذا قال: {مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ }
، وقال في الحرم: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}.
 قال -يرحمه الله-: واختار ابن جرير أن الفسوق هاهنا: هو ارتكاب ما نُهي عنه في الإحرام، مِن قتل الصيد، وحلق الشعر، وقلم الأظافر، ونحو ذلك(6)، كما تقدم عن ابن عمر، وما ذكرناه أولى، والله أعلم»(7).


وقد ثبت في «الصحيحين» من حديث أبي حازم عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق خرج مِن ذنوبه كيوم ولدته أمه».
وأما الجدال: فإنّه مشتق من الجدل وهو الفتل، والمراد به هنا المماراة، وقيل: السباب، وقيل: الفخر بالآباء، والظاهر الأول(8).
وقال السَّعدي في «تفسيره»: «والفسوق: هو جميع المعاصي، ومنها محظورات الإحرام، والجدال: وهو المماراة، والمنازعة، والمخاصمة؛ لكونها تثير الشّر وتوقع العداوة، والمقصود من الحجِّ: الذّل والانكسار لله، والتقرب إليه بما أمكن من القربات، والتنزه عن مقارفة السيئات، فإنه بذلك يكون مبروراً والمبرور ليس له جزاء إلا الجنة، وهذه الأشياء وإن كانت ممنوعة في كل مكان وزمان فإنه يتغلظ المنع عنها في الحجّ»(9).


وبعد أن نهى –سبحانه- عن اقتراف المعاصي أمر بفعل الأوامر فقال: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ } حتى لا يستهين الحاجّ بأي طاعة، وأي قربة، وأن يحرص على المبادرة إلى الطاعات كما يبادر إلى ترك المعاصي، «فأتى الله -سبحانه- بـ(مِن) للتنصيص على العموم فكل خير وقربة وعبادة داخل في ذلك، أي: فإن الله به عليم، وهذا يتضمن غاية الحثّ على أفعال الخير؛ خصوصاً في تلك البقاع الشريفة والحرمات المنيفة، فإنه ينبغي تدارك ما أمكن تداركه فيها، من صلاة وصيام وصدقة وطواف وإحسان قولي وفعلي»(10).
ثم حثّ -سبحانه- على زاد التقوى الذي هو أصل كل خير حامل على ترك المنكرات، وفعل الخيرات، فمن كان فقيراً من التقوى فإنه يزهد في الخير، ويقع كثيراً في الشر «فالزاد الحقيقي المستمر نفعه لصاحبه في دُنياه وأخراه هو زاد التقوى الذي هو زاد إلى دار القرار، وهو الموصل لأكمل لذة، وأجل نعيم دائماً أبداً، ومن ترك هذا الزاد فهو المنقطع به الذي هو عرضة لكل شر، وممنوع من الوصول إلى دار المتقين، فهذا مدح للتقوى»(11).


قلت: وهذا -والذي نفسي بيده- هو الغاية من الحج والحكمة منه بنيل تقوى الله، بفعل ما أمر، والانتهاء عمّا نهى عنه وزجر.
والله الموفق.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) «تفسير السَّعدي» (ص102).
(2) المصدر السابق (ص102).
(3) «مختصر تفسير البغوي» (1/197-198).
(4) أخرجه ابن أبي حاتم (1846) وإسناده صحيح.
(5) أخرجه البخاري ومسلم.
(6) «تفسير الطبري» (2/282).
(7) «تفسير ابن كثير» (1/705-706).
(8) «فتح البيان في مقاصد القرآن» (1/282).
(9) «تفسير السّعدي» (ص102).
(10) المصدر السابق (ص103).
(11) المصدر السابق (ص103).