مجالات الإصلاح عند الشاطبي ج4 - جمعية مركز الإمام الألباني للدراسات والأبحاث

مجالات الإصلاح عند الشاطبي ج4

  • مشهور حسن آل سلمان
  • 11/08/2018
  • 1393

قررنا في الحلقة السابقة أن للشاطبي مجالات متعدّدة في الإصلاح، وتناولنا المجال الخُلُقي والمجال التربوي، وتعرضنا للركن الأول من أركان الإصلاح التربوي عند الشاطبي، وهو المعلم، ونستكمل في هذه الحلقة – إن شاء الله-:
* الركن الثاني: المادة العلمية.
* والركن الثالث: الطريقة التي يوصِل بها المعلم المادة إلى الطالب، فنقول:
 المادة العلمية:
كما أن الشاطبي اعتنى بالركن الأول من أركان العملية التربوية، وهو المعلّم فإنه لم ينس (المادة العلمية)، إذ قد نادى بإصلاح شامل، ورسم صورة واضحة تخرج المعرفة والعلم من صورتها القاسية إلى صورة منهجية مشرقة، ونستطيع أن نتلمس هذا في ثلاث قضايا:
القضية الأولى: قضية تحديد العلم.
ذكر الشاطبي(1) أن «من العلم ما هو صُلْب العلم، ومنه ما هو من مُلَح العلم»، وتبين أن الصلب هو الأصل والمعتمد، والذي عليه مدار الطلب، وإليه تنتهي مقاصد الراسخين، وذكر أن حقيقة هذا القسم: «ما كان قطعياً، أو راجعاً إلى أصل قطعي» وهذا القسم هو الذي ينبغي أن يوجه المعلم إليه همم تلاميذه، فهو بمثابة الأساس المكين لكل بنيان، وعلى الطلبة أن يستكثروا منه، ويعضوا بالنواجذ عليه.
ولهذا القِسم ثلاث خواص يمتاز بهن عن غيره:
إحداها: العموم والاطِّراد؛ فالعلم لا يكون علماً بالمعنى الصحيح إلا إذا قام على حقائق عامة ومطردة، بحيث تنطبق كلياته على جزئياته، فلا تتخلف أبداً، ولذا فهو يتسم بسمة القطعية.
والثانية: الثبوت والاستمرار من غير زوال، فالعلم لا يكون علماً إلا إن قام على معانٍ ثابتة لا تتغير ولا تتبدَّل، وهذا يشمل المبادئ والقواعد الكلية لكل علم من العلوم، فإنها ثابتة مع توالي الأيام ، ومر الدهور.
والثالثة: كون العلم حاكماً لا محكوماً عليه:
فكل علم اكتملت له هذه الخواص الثلاث، فهو من صلب العلم، وإن تخلفت واحدة منها فهو من (مُلَحه) (2) ، وهو يكون من بابة إمتاع النفس بما يشتمل عليه من نكت وطرائف، يحتاج إليها الطالب بعد الكلال والتعب، فذاك (الصلب) بمثابة (الطعام) وهذه (المُلَح) بمثابة (الفاكهة).
وضرب الشاطبي أمثلة لـ(الملح) يلحق بها ما سواها، منها:
- الحكم المستخرجة لما يعقل معناه على الخصوص في التعبدات.
- تحمل الأخبار والآثار على التزام كيفيات لا يلزم مثلها، ولا يطلب التزامها، كالأحاديث المسلسلة التي أتي بها على وجوه ملتزمة في الزمان المتقدم على غير قصد، فالتزمها المتأخرون بالقصد، مع أن ذلك القصد لا ينبني عليه عمل.
- التأنق في استخراج الحديث من طرق كثيرة، لا على طلب تواتره.
- العلوم المأخوذة من الرؤيا، مما لا يرجع إلى بشارة ولا نذارة.
- المسائل التي لا ينبني على الاختلاف فيها فرع علمي، كبعض مسائل الأصول واللغة.
- الاستناد إلى الأشعار في تحقيق المعاني العلمية والعملية.
- الاستدلال على تثبيت المعاني بأعمال المشار إليهم بالصلاح، بناء على مجرد تحسين الظن، لا زائد عليه.
وهذه الأمور يشتغل بها طالب العلم بحذر ويعطيها ما يناسبها من القدر، إذ تحقق له (متعته) ولبعضها تعلق بـ(مواهبه) و(قدرته) على إثبات (تفننه) أو (كثرة مشايخه) أو (ذكر استقامته)، فليكن على حذر من الاسترسال فيها، والانقطاع إليها، فالواجب عليه أن يستغرق جهده ووقته -ولا سيما في مرحلة الطلب والبناء- في صلب العلم
ولبه، فهو به أحرى وأولى وأجدى، والله الموفق والهادي.
أما ما فَقَدَ (الأصالةَ) –وهو الصلب- و(الإمتاع)- وهو اللب- فالانشغال به رمي في عماية، وإيصال إلى غواية، وهو ما لا يرجع إلى أصل قطعي أو ظني في الشريعة، بل يكر عليها بالإبطال، مثل ما انتحله الباطنية في كتاب الله من إخراجه عن ظاهره، وما يستند إلى الدعاوى من علم النجوم والسفسطة والحروف (علم الأوفاق) وغيرها(3).
القضية الثانية: قضية الباعث على طلب العلم:
ينبغي لكل علم يطلب -سواء كان دينيّاً أم دنيويّاً- أن يقترن بنية الطاعة لله –عز وجل-، وفي هذا يقول الشاطبي: «كل علم شرعي، فطلب الشارع له إنما يكون من حيث هو وسيلة إلى التعبد به لله –تعالى- لا من جهة أخرى، فإن ظهر فيه اعتبارُ جهة أخرى فبالتبع والقصد الثاني لا بالقصد الأول»(4)، وأخذ يدلل على ذلك بالنصوص الشّرعيّة، ثم فصل مراده من القصد الثاني – وهو التبع- فقال:
«وأما التابع؛ فهو الذي يذكره الجمهور من كون صاحبه شريفاً، وإن لم يكن في أصله كذلك، وإن الجاهل دنيءٌ، وإن كان في أصله شريفاً، وأن قوله نافذ في الأشعار والأبشار، وحكمه ماضٍ على الخلق، وإن تعظيمه واجب على جميع المكلّفين، إذ قام لهم مقام النّبي، لأن العلماء ورثة الأنبياء، وأن العلم جمال ومال ورتبة لا توازيها رتبة، وأهله أحياء أبد الدهر . . . إلى سائر ما له في الدنيا من المناقب الحميدة، والمآثر الحسنة، والمنازل الرفيعة، فذلك كله غير مقصود من العلم شرعاً، كما أنه مقصود من العبادة والانقطاع إلى الله –تعالى-، وإن كان صاحبه يناله.
وأيضاً؛ فإن العلم بالأشياء لذة لا توازيها لذة، إذ هو نوع من الاستيلاء على العلوم والحوز له، ومحبة الاستيلاء قد جبلت عليها النفوس، وميِّلت إليها القلوب، وهو مطلوب خاص، برهانه التجرِبة التامة والاستقراء العام؛ فقد يطلب العلم للتفكه به، والتلذذ بمحادثته، ولا سيّما بالعلوم التي للعقول فيها مجال، وللنظر في أطرافها متسع، ولاستنباط المجهول من المعلوم فيها طريق متّبع.
ولكن كل تابع من هذه التوابع؛ إما أن يكون خادماً للقصد الأصلي، أو لا.
فإن كان خادماً له؛ فالقصد إليه ابتداء صحيح»(5) ثم قال:
«وإن كان غيرَ خادم له؛ فالقصد إليه ابتداء غير صحيح، كتعلّمه رياء، أو ليُماري به السفهاء، أو يباهي به العلماء، أو يستميل به قلوب العباد، أو لينال من دنياهم، أو ما أشبه ذلك؛ فإن مثل هذا إذا لاح له شيء مما طلب زهد في التعلم، ورغب في التقدم، وصعب عليه إحكام ما ابتدأ فيه، وأنف من الاعتراف بالتقصير، فرضي بحاكم عقله، وقاس بجهله، فصار ممن سئل فأفتى بغير علم؛ فضلَّ وأضلّ، أعاذنا الله من ذلك بفضله»(6).
فينبني على عدم صحة هذا الباعث شرور عديدة، وآفات جسيمة، من مثل: عدم الاعتراف بالخطأ والتقصير، وإعمال الهوى والعقل، وعدم الترقي في الطلب وإحكام الـمسائـل العلمية، وينقلـب العلـم –حينئذ- أداة للشر لا للخير، ويتحول من نعمة إلى نقمة، وتتعطل مهمته في الإصلاح والبناء، ويحل محلها الإفساد والهدم.
القضية الثالثة: الثمرة من العلم:
العلم لا ينفع إلا إذا كان مفضياً إلى أعمال، يقول الشاطبي: «كل مسألة لا ينبني عليها عمل، فالخوض فيها خوض فيما لم يدل على استحسانه دليل شرعي»، قال: «وأعني بالعمل: عمل القلب، وعمل الجوارح، من حيث هو مطلوب شرعاً»(7).
فالعلم النظري البحت الذي لا يقوم إلا على الجدل أو الافتراض، ولا يترتب عليه عمل قلبي ولا بدني؛ فهو مضيعة للجهد، ومتلفة للوقت.
واستدل الشاطبي على ذلك باستقراء أدلة الشريعة من الكتاب والسنة، وساق جملة حسنة منها(8).
وذكر –رحمه الله- فرعاً من فروع العلم قد يظهر للناظر بادئ بدء أنه مستثنى من هذا الأصل، إلا أنه رده إليه، فقال: «نعم؛ قد يكون العلم فضيلة، وإن لم يقع العمل به على الجملة، كالعلم بفروع الشريعة والعوارض الطارئة في التكليف، إذا فرض أنها لم تقع في الخارج؛ فإن العلم بها حسن، وصاحب العلم مثاب عليه، وبالغ مبالغ العلماء؛ لكن من جهة ما هو مظنة الانتفاع عند وجود محلِّه، ولم يخرجه ذلك عن كونه وسيلة، كما أن في تحصيل الطهارة للصلاة فضيلة وإن لم يأت وقت الصلاة بعد، أو جاء ولم يمكنه أداؤها لعذر، فلو فرض أنه تطهر على عزيمة أن لا يصلي، لم يصح له ثواب الطهارة، فكذلك إذا علم على أن لا يعمل، لم ينفعه علمه، وقد وجدنا وسمعنا أن كثيراً من اليهود والنصارى يعرفون دين الإسلام، ويعلمون كثيراً من أصوله وفروعه، ولم يكن ذلك نافعاً لهم مع البقاء على الكفر باتفاق أهل الإسلام» ثم قال بعدها مباشرة:
«فالحاصل إنَّ كل علم شرعي ليس بمطلوب إلا من جهة ما يتوسل به إليه، وهو العمل»(9).
ويقسم الشاطبي أهل العلم وهم في طلبه وتحصيله على ثلاث مراتب، وأن أكملهم المرتبة الثالثة، وعليهم يدور الصلاح والإصلاح، وهم(10):
المرتبة الأولى: الطالبون له، ولمّا يحصلوا على كماله بعد، وإنما هم في طلبه في رتبة التقليد، فهؤلاء إذا دخلوا في العمل به، فبمقتضى الحمل التكليفي، والحث الترغيبي والترهيبي، وعلى مقدار شدة التصديق يخف ثقل التكليف.
فخير أصحاب هذه المرتبة عائد على أنفسهم وذواتهم، ولم يتعدّهم –بعد- إلى غيرهم.
المرتبة الثانية: الواقفون منه على براهينه، ارتفاعاً عن حضيض التقليد المجرد، واستبصاراً فيه، حسبما أعطاه شاهد النقل، الذي يصدقه العقل تصديقاً يطمئن إليه، ويعتمد عليه؛ إلا أنه –بَعْدُ- منسوب إلى العقل لا إلى النفس، بمعنى أنه لم يصر كالوصف الثابت للإنسان؛ وإنما هو كالأشياء المكتسبة؛ والعلوم المحفوظة، التي يتحكم عليها العقل، وعليه يعتمد في استجلابها، حتى تصير من جملة مُودَعاته، فهؤلاء إذا دخلوا في العمل؛ خفَّ عليهم خفَّة أخرى زائدة على مجرد التصديق في المرتبة الأولى، بل لا نسبة بينهما؛ إذ هؤلاء يأبى لهم البرهان المصدق أن يكذبوا، ومن جملة التكذيب الخفي؛ العمل على مخالفة العلم الحاصل لهم، ولكنهم حين لم يصر لهم كالوصف، ربما كانت أوصافهم الثابتة من الهوى والشهوة الباعثة الغالبة أقوى الباعثين.
والمرتبة الثالثة: الذين صار لهم العلم وصفاً من الأوصاف الثابتة، بمثابة الأمور البديهية في المعقولات الأُوَل، أو تقاربها، ولا ينظر إلى طريق حصولها؛ فإن ذلك لا يحتاج إليه، فهؤلاء لا يخليهم العلم وأهواءهم إذا تبين لهم الحق، بل يرجعون إليه رجوعهم إلى دواعيهم البشرية، وأوصافهم الخَلقية، فهؤلاء هم أئمة الدين؛ إذ جمعوا بين الصبر واليقين، وقاموا بفريضة الإرشاد، وانتفع بهم العباد، بلحظهم ووعظهم، إذ لا انفصام عندهم بين العلم والعمل، وهؤلاء هم أعمدة الإصلاح، إذ فاض الخير من نفوسهم وسال وتدفق إلى غيرهم، والوصول إلى هذه المرتبة هي الثمرة الحقيقية من العلم «الذي لا يخلي صاحبه جارياً مع هواه كيفما كان، بل هو المقيّد لصاحبه بمقتضاه، الحامل له على قوانينه طوعاً أو كرهاً»(11).
ومن الجدير بالذكر أن هذا مآل المثابر على طلب العلم، والتفقه فيه؛ إذ عدم الاجتزاء باليسير منه، يجرّ إلى العمل به، ويُلجئُ إليه(12).
 الركن الثالث: الطريقة التي يوصل بها المعلم المادة إلى الطالب:
تنبَّه الشاطبي إلى قواعد أساسية في طريقة تعليم الطالب، فأول ما يبدأ المعلم بالسهل قبل الصعب، قال –رحمه الله-: «ولا يذكر للمبدئ من حظ المنتهي من العلم، بل يربَّى الصغار بصغار العلم قبل كباره»(13)، ونبه المعلم أيضاً على البدء بالأهم فالمهم، قال موجِّهاً له: «لا تعلِّم الغرائب إلا بعد إحكام الأصول».
ووجه الشاطبي أنظار العلماء والدارسين إلى طريقة صحيحة لتوصيل العلم إلى من يطلبه، فقال شارحاً الطريقة المناسبة لجمهور الناس، المقدورة لأوساطهم، ذاكراً الأمثلة على ذلك:
«وذلك أن ما يتوقف عليه معرفة المطلوب قد يكون له طريق تقريبيٌّ يليق بالجمهور، وقد يكون له طريق لا يليق بالجمهور، وإن فرض تحقيقاً.
فأما الأول؛ فهو المطلوب، المنبَّه عليه، كما إذا طلب معنى المَلَك، فقيل: إنه خلق من خلق الله يتصرف في أمره، أو معنى الإنسان؛ فقيل: إنه هذا الذي أنت من جنسه، أو معنى التخوُّف؛ فقيل: هو التنقص، أو معنى الكوكب، فقيل: هذا الذي نشاهده بالليل، ونحو ذلك؛ فيحصل فهم الخطاب مع هذا الفهم التقريبي حتى يمكن الامتثال.
وعلى هذا وقع البيان في الشريعة؛ كما قال – عليه السلام-: «الكبر بطر الحق وغمط الناس»(14)؛ ففسَّره بلازمه الظاهر لكل أحد، وكما تفسَّر ألفاظ القرآن والحديث بمرادفاتها لغة، من حيث كانت أظهر في الفهم منها، وقد بيّن –عليه السلام- الصلاة والحج بفعله وقوله على ما يليق بالجمهور، وكذلك سائر الأمور، وهي عادة العرب، والشريعة عربية، وأن الأمة أميّة؛ فلا يليق بها من البيان إلا الأمي». قال: «فإذاً؛ التّصورات المستعملة في الشرع إنما هي تقريبات بالألفاظ المترادفة وما قام مقامها من البينات القريبة»، قال:
«وأمَّا الثاني – وهو ما لا يليق بالجمهور-؛ فعدم مناسبته للجمهور أخرجه عن اعتبار الشرع له، لأن مسالكه صعبة المرام، {وَما جَعَلَ عَليْكُمْ في الدِّين مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78]، كما إذا طلب معنى المَلك، فأُحيل به على معنى أغمض منه، وهو: ماهية مجرّدة عن المادة أصلاً، أو يقال: جوهرٌ بسيط ذو نهاية ونطق عقلي، أو طلب معنى الإنسان؛ فقيل: هو الحيوان الناطق المائت، أو يقال: ما الكوكب؟ فيجاب بأنه جسم بسيط، كُرِيٌّ، مكانه الطبيعي نفس الفلك، من شأنه أن ينير، متحرك على الوسط، غير مشتمل عليه، أو سئل عن المكان، فيقال: هو السطح الباطن من الجِرم الحاوي، المماسُّ للسطح الظاهر من الجسم المحوي، وما أشبه ذلك من الأمور التي لا تعرفها العرب، ولا يوصل إليها إلا بعد قطع أزمنة في طلب تلك المعاني، ومعلوم أنَّ الشارع لم يقصد إلى هذا ولا كلَّف به»(15).
فالطريق الأول هو الطريق السهل القريب الذي لا تكلف فيه، والذي يقع الاعتماد فيه على المحسوسات والتجارِب العملية، وهو الطريق الحسن الذي يحوِّل العلم إلى عمل، وهو الذي سلكه رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتهجه من بعده من الصحابة وغيرهم، فلم يكونوا متكلفين. قال في تقرير هذا المعنى:
«وعلى هذا النحو مرَّ السلف الصالح في بث الشريعة للمؤالف والمخالف، ومن نظر في استدلالهم على إثبات الأحكام التكليفية؛ علم أنهم قصدوا أيسر الطرق وأقربها إلى عقول الطالبين؛ لكن من غير ترتيب متكلَّف، ولا نظم مؤلَّف، بل كانوا يرمون بالكلام على عواهنه، ولا يبالون كيف وقع في ترتيبه، إذا كان قريب المأخذ، سهل الملتمس، هذا وإن كان راجعاً إلى نظم الأقدمين في التحصيل، فمن حيث كانوا يتحرُّون إيصال المقصود، لا من حيث احتذاء من تقدمهم.
وأما إذا كان الطريق مرتَّباً على قياسات مركّبة أو غير مركَّبة؛ إلا أن في إيصالها إلى المطلوب بعض التوقف للعقل؛ فليس هذا الطريق بشرعي، ولا تجده في القرآن، ولا في السنَّة، ولا في كلام السلف الصالح»(16).
ويستفاد من هذا: النظرة الشاملة عند الشاطبي إلى طرق التعليم من حيث إنه صناعة، وإلى الغاية النبيلة من وراء ذلك، ويتأكد هذا في المحورين الآتيين:
المحور الأول: تعليم العوام:
أخذ تعليم العوام حظاً جيداً من الإصلاح التربوي عند الشاطبي، وهو قائم عنده على أمرين:
الأول: الاقتصار في تعليمهم على حاجتهم وما ينفعهم، ولا تبحث معهم المسائل على طريقة أهل النظر.
الثاني: أن يقدم إليهم ما يحتاجون إليه بالطريقة التي هم قادرون على فهمها، قال –رحمه الله-:
«ومن ذلك التحدث مع العوام بما لا تفهمه ولا تعقل معناه، فإنه من باب وضع الحكمة غير موضعها؛ فسامعها إما أن يفهمها على غير وجهها –وهو الغالب- وهو فتنة تؤدي إلى التكذيب بالحق، وإلى العمل بالباطل، وإما لا يفهم منها شيئاً وهو أسلم، ولكن المحدث لم يعط الحكمة حقها من الصون، بل صار في التحدث بها كالعابث بنعمة الله.
ثم إن ألقاها لمن لا يعقلها في معرض الانتفاع بعد تعقلها كان من باب التكليف بما لا يطاق، وقد جاء النهي عن ذلك»(17) وأخذ في سرد النصوص.
ويرى أن من سبل إصلاح العوام اجتماعهم على العلماء، وجُثُوَّهم على الركب بين أيديهم للتفقه في الدين، وجعل ذلك من (مجالس الذكر) على الحق والحقيقة، خلافاً لما كان عليه المتصوفة في زمانه(18)، فاسمع إليه وهو يقارن بين ما هم عليه وما ينبغي أن يكونوا عليه:
«وإذا اجتمع القوم على التذكر لنعم الله، أو التذاكر في العلم إن كانوا علماء، أو كان فيهم عالم فجلس إليه متعلمون، أو اجتمعوا يذكر بعضهم بعضاً بالعمل بطاعة الله والبعد عن معصيته –وما أشبه ذلك مما كان يعمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه وعمل به الصحابة والتابعون – فهذه المجالس كلها مجالس ذكر وهي التي جاء فيها من الأجر ما جاء»، ثم قال: «وكان كالذي نراه معمولاً به في المساجد من اجتماع الطلبة على معلم يقرئهم القرآن أو علماً من العلوم الشرعية، أو تجتمع إليه العامة فيعلمهم أمر دينهم، ويذكّرهم بالله، ويبين لهم سنة نبيهم ليعملوا بها، ويبين لهم المحدثات التي هي ضلالة ليحذروا منها، ويتجنبوا مواطنها والعمل بها»، ثم نقد بعض الطرق التي كانت تعلّم في زمنه، فقال:
«فهذه مجالس الذكر على الحقيقة، وهي التي حَرَمَها اللهُ أهلَ البدع من هؤلاء الفقراء الذين زعموا أنهم سلكوا طريق التصوف،  فقلما تجد منهم من يحسن قراءة الفاتحة في الصلاة إلا على اللحن، فضلاً عن غيرها، ولا يعرف كيف يتعبد، ولا كيف يستنجي أو يتوضأ أو يغتسل من الجنابة، وكيف يعلمون ذلك وهم قد حُرِموا مجالسَ الذكر التي تغشاها الرحمة، وتنزل فيها السكينة، وتحف بها الملائكة، فبانطماس هذا النور عنهم ضلوا، فاقتدوا بجهال أمثالهم، وأخذوا يقرأون الأحاديث النبوية والآيات القرآنية فينزلونها على آرائهم، لا على ما قال أهل العلم فيها، فخرجوا عن الصراط المستقيم، إلى أن يجتمعوا ويقرأ أحدهم شيئاً من القرآن يكون حسن الصوت طيب النغمة جيد التلحين تشبه قراءته الغناء المذموم، ثم يقولون: تعالوا نذكر الله فيرفعون أصواتهم ويمشون ذلك الذكر مداولة، طائفة في جهة، وطائفة في جهة أخرى، على صوت واحد يشبه الغناء، ويزعمون أن هذا من مجالس الذكر المندوب إليها، وكذبوا: فإنه لو كان حقاً لكان السلف الصالح أولى بإدراكه وفهمه والعمل به، وإلا فأين في الكتاب أو في السنة الاجتماع للذكر على صوت واحد جهراً عالياً»(19).
فالطريقة المرضية عند الشاطبي في تعليم العوام إنما هي في الموعظة، التي تحملهم على الطاعة وتحذرهم من المعصية، وفي تعليمهم ما يلزمهم من أمور دينهم المفروضة دون ما لا تحتمله عقولهم من مسائل كلامية وفرضية غير واقعية، أو طقوس عبادية بدعية لم يفعلها السلف الصالح.

والمحور الثاني : نقده للمتكلفين والمتبجّحين من المعلمين:
لام الشاطبي كثيراً من المعلمين الخارجين في طريقة تعليمهم عن السابلة، ولا سيما ذلك الصنف الذي «يتبجح بذكر المسائل العلمية لمن ليس من أهلها، أو ذكر كبار المسائل لمن لا يحتمل عقله إلا صغارها، على  ضد التربية المشروعة، فمثل هذا يوقع في مصائب، ومن أجلها قال علي –رضي الله عنه-: «حدثوا الناس بما يفهمون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله؟!»، وقد يصير ذلك فتنة على بعض السامعين»(20) قال مركّزاً على هذا المعنى محذّراً من مخالفته: «فلا يصح للعالم في التربية العلمية إلا المحافظة على هذه المعاني(21)، وإلا لم يكن مربياً، واحتاج هو إلى عالم يربِّيه»(22).
وفي هذا التقرير فوائد مهمة، تلتقي القواعدَ التربويةَ الأساسيةَ التي انتهى إليها اليوم فلاسفة التربية(23)، منها: مراعاة الفروق الفردية بين المتعلمين؛ إذ تلقين كبار المسائل لمن لا يحتملها عقله كانت إحدى الآفات التي نزلت بأسلوب التعليم في وقت مضى، فقتلت أوقاتاً نفيسةً في غير سبيل الله، وعطلت قرائح كانت أحق بأن تسقى بتعليم سائغ فتؤتي أكلها كل حين، وعلاج هذه العلة أن يعلم الأستاذ أن تمييز مراتب التلاميذ في الفهم وترشيحهم بمبادئ العلوم على حسب استعدادهم أعظم ثواباً في الدار الباقية، وأدعى لإجلال التلاميذ أنفسهم وإخلاصهم له من مفاجاءتهم بالخوض في مسائل لا تسعها مداركهم.
وكان الشاطبي حفياً بقاعدة (مراعاة حال المخاطبين) (24) و(تفاوت قدرات المتعلمين) سواء كانوا متعلمين منتظمين؛ أم مستفيدين عارضين، وقدم نصائح غالية لذوي البصيرة من المربين في طريقة تعليم الجميع، وهي نابعة من قاعدة أصولية ركز الشاطبي عليها كثيراً، وأكثر من تردادها والتخريج عليها في «موافقاته» وهي (النظر إلى مآلات الأفعال)، قال –رحمه الله تعالى- فيما يختص بالتكليف غير المنحتم:
«ويختص غير المنحتم بوجه آخر، وهو النظر فيما يصلح بكل مكلف في نفسه، بحسب وقت دون وقت، وحال دون حال، وشخص دون شخص؛ إذ النفوس ليست في قبول الأعمال الخاصة على وزان واحد، كما أنها في العلوم والصنائع كذلك، فرب عمل صالح يدخل بسببه على رجل ضرر أو فترة، ولا يكون كذلك بالنسبة إلى آخر، ورب عمل يكون حظ النفس والشيطان فيه بالنسبة إلى العامل أقوى منه في عمل آخر، ويكون بريئاً من ذلك في بعض الأعمال دون بعض؛ فصاحب هذا التحقيق الخاص هو الذي رزق نوراً يعرف به النفوس ومراميها وتفاوت إدراكها، وقوة تحمُّلها للتكاليف، وصبرها على حمل أعبائها أو ضعفها، ويعرف التفاتها إلى الحظوظ العاجلة أو عدم التفاتها، فهو يحمل على كل نفس من أحكام النصوص ما يليق بها، على أن ذلك هو المقصود الشرعي في تلقي التكاليف؛ فكأنه يخص عموم المكلفين والتكاليف بهذا التحقيق»(25).
وطول في سرد عشرات الأدلة في التدليل على هذا الذي ذكره، ويعود إلى ذكر ما يلتقي هذا التقرير رابطاً إياه بالمآلات، فيقول: «وقد فرض العلماء مسائل مما لا يجوز الفتيا بها، وإن كانت صحيحة في نظر الفقه»، قال:
«ومن ذلك سؤال العوام عن علل مسائل الفقه وحكم التشريعات، وإن كان لها علل صحيحة وحكم مستقيمة، ولذلك أنكرت عائشة على من قالت: لم تقضي الحائض الصوم ولا تقضي الصلاة؟ وقالت لها: أحرورية أنت؟(26)
وقد ضرب عمر بن الخطاب صَبيغاً وشرّد به لما كان كثير السؤال عن أشياء من علوم القرآن لا يتعلق بها عمل(27)، وربما أوقع خبالاً وفتنة وإن كان صحيحاً، وتلا قوله –تعالى-: {وفاكهةً وأبّاً} [عبس:31]، فقال: هذه الفاكهة، فما الأبُّ؟ ثم قال: ما أُمرنا بهذا(28).
إلى غير ذلك مما يدل على أنه ليس كل علم يبث وينشر وإن كان حقّاً وقد أخبر مالك عن نفسه أن عنده أحاديث وعلماً ما تكلم فيها ولا حدث بها، وكان يكره الكلام فيما ليس تحته عمل، وأخبر عمن تقدمه أنهم كانوا يكرهون ذلك؛ فتنبه لهذا المعنى.
وضابطه أنك تعرض مسألتك على الشريعة، فإن صحت في ميزانها؛ فانظر في مآلها بالنسبة إلى حال الزمان وأهله، فإن لم يؤد ذكرها إلى مفسدة؛ فاعرضها في ذهنك على العقول، فإن قبلتها؛ فلك أن تتكلم فيها؛ إما على العموم إن كانت مما تقبلها العقول على العموم، وإما على الخصوص إن كانت غير لائقة بالعموم، وإن لم يكن لمسألتك هذا المساغ؛ فالسكوت عنها هو الجاري على وفق المصلحة الشرعية والعقلية»(29).
وأخيراً؛ ينتقل الشاطبي فيما يخص الطريقة في التعليم إلى «حقيقة علمية منهجية شاملة، هي أن سائر فروع المعرفة متكاملة، يخدم بعضها بعضاً، فعلم الفقه محتاج إلى علم اللغة، وعلم التفسير، وعلم الحديث، وعلم الأصول محتاج إلى علم النحو، وعلم اللغة، وعلم الكلام محتاج على علم الجدل، وعلوم أخرى، وهكذا . . .
والقاعدة العامة هي أن يستعين مدرس كل علم بما يحتاج إليه من علم آخر مجرد الاستعانة.
ومعنى ذلك أن يقتصر على ما يكفيه فقط دون إفاضة في تحليل أو شرح، فإن أخذ مسألة من علم النحو مثلاً احتاج إليها في درسه لعلم الفقه، فجعل يبسط فيها القول كما يفعل علماء النحو، فقد أخطأ الطريقة الصحيحة في التعليم، ودخل في فضول لا ينفع، بل يضر الطلاب بتشويش أذهانهم، ولا يدرون أهم يتعلمون النحو أم الفقه؟!»(30).