مجالات الإصلاح عند الشاطبي ج5 - جمعية مركز الإمام الألباني للدراسات والأبحاث

مجالات الإصلاح عند الشاطبي ج5

  • مشهور حسن آل سلمان
  • 11/08/2018
  • 1050

تعرضنا في الحلقة السابقة إلى ركنين من أركان العملية التربوية الإصلاحية عند الشاطبي، وهما:
المادة العلمية، والطريقة التي يوصلها المعلم على الطالب.
ونتعرض في هذه الحلقة إلى المقصود من العملية التربوية؛ وهو (الطالب)، ثم إلى (الإصلاح السياسي) عند الشاطبي، فنقول:
الطالب(1):
إذا كان من أركان التربية ومقوماتها: المادة العلمية التي تطلب وتدرس، والمعلم الذي يوصلها، والطريقة التي يوصلها به، فإن الطالب الذي يتلقاها ويحصلها هو الركن الرابع؛ وهو المقصود بعملية التربية والتعليم كلها.
وقد عنى به إمامنا الشاطبي كما عني بسائر أركان  التربية؛ بل عنايته به أبلغ وأعمق، ومقولته هنا إحدى بدائعه وروائعه التي سبق بها عصره، وترك لنا فيها ما يعبر عن إمامته وإبداعه في أكثر من مجال.
وأبرز ما ألتفت هنا إليه، ونبه عليه هو ما يتعلق بنظرية (التوجيه التربوي)، وتوزيع الطلاب والناشئين على التخصصات من العلوم والأعمال المختلفة، وفق القدرات الذهنية والبدنية، والاستعدادات الفطرية، والميول المهنية، فلا يُرغَم طالبٌ على علم لم يتهيأ له عقلياً ولا نفسيّاً، ولا يوجه إلى عمل لا يلائم مواهبه وتطلعاته واستعداداته الفكرية أو الجسمية.
وذلك بعد أخذ القدر اللازم من العلم الذي هو فرض عين على كل مسلم، فهذا مفروغ منه، وهو أشبه بما يسمى في عصرنا (التعليم الإلزامي).
إنما الكلام هنا هو في فرض الكفاية الواجب على مجموع الأمة فيما يتعلق بالعلوم والصناعات التي تحتاج إلى تخصص، ويمكن أن ينجح فيها بعض الأفراد دون بعض، بل أن يبرز بعضهم ويتفوق؛ إذا وُضِعَ في مكانه المناسب، واختير له ما يوافق مؤهلاته الفطرية.
والشاطبي –هنا- يركز على ضرورة إقامة فروض الكفاية الواجبة على الأمة بإقامة  القادرين على أدائها، وتهيئتهم للقيام على الوجه المرضي.
ويجمل بنا هنا أن ننقل عبارته بنصها لما تحمله من قوة الحجة، ووضوح المحجة، يقول –رحمه الله-(2):
«إن الله -عزّ وجلّ- خلق الخلق غير عالمين بوجوه مصالحهم، لا في الدنيا ولا في الآخرة، ألا ترى إلى قول الله –تعالى-: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً} [النحل:78]، ثم وضع فيهم العلم بذلك على التدريج والتربية، تارة بالإلهام كما يلهم الطفل التقام الثدي ومصه، وتارة بالتعليم؛ فطلبَ الناسَ بالتعلم والتعليم لجميع ما يستجلب به المصالح وكافة ما تُدرأ به المفاسد؛ إنهاضاً لما جبل فيهم من تلك الغرائز الفطرية، والمطالب الإلهامية؛ لأن ذلك كالأصل للقيام بتفاصيل المصالح –كان ذلك من قبيل الأفعال، أو الأقوال، أو العلوم والاعتقادات، أو الآداب الشرعية أو العادية- وفي أثناء العناية بذلك يقوى في كل واحد من الخلق ما فطر عليه، وما أُلهم له من تفاصيل الأحوال والأعمال؛ فيظهر فيه وعليه، ويبرز فيه على أقرانه ممن لم يهيأ تلك التهيئة، فلا يأتي زمان التعقل إلا وقد نجم على ظاهره ما فطر عليه في أوليته، فترى واحداً قد تهيأ لطلب العلم، وآخر لطلب الرياسة، وآخر للتصنع ببعض المهن المحتاج إليها، وآخر للصراع والنطاح، إلى سائر الأمور.
هذا وإن كان كلُّ واحدٍ قد غُرز فيه التصرف الكلي؛ فلا بد في غالب العادة من غلبة البعض عليه؛ فيردُ التكليف عليه معلَّماً مؤدَّباً في حالته التي هو عليها فعند ذلك ينتهض الطلب على كل مكلف في نفسه من تلك المطلوبات بما هو ناهضٌ فيه، ويتعين على الناظرين فيهم الالتفات إلى تلك الجهات، فيراعونهم بحسبها ويراعونها إلى أن تخرج في أيديهم على الصراط المستقيم، ويعينونهم على القيام بها، ويحرضونهم على الدوام فيها؛ حتى يبرز كل واحد فيما غلب عليه ومال إليه من تلك الخطط، ثم يُخلَّى بينهم وبين أهلها، فيعاملونهم بما يليق بهم ليكونوا من أهلها، إذا صارت لهم كالأوصاف الفطرية، والمدْركات الضرورية؛ فعند ذلك يحصل الانتفاع، وتظهر نتيجة تلك التربية.
فإذا فُرض –مثلاً- واحد من الصبيان ظهر عليه حسن إدراكٍ، وجودة فهم، ووفور حفظٍ لما يسمع –وإن كان مشاركاً في غير ذلك من الأوصاف-؛ ميل به نحو ذلك القصد، وهذا واجب على الناظر فيه من حيث الجملة مراعاةً لما يُرجى فيه من القيام بمصلحة التعليم فطُلب بالتعلَّم وأدِّب بالآداب المشتركة بجميع العلوم، ولا بدَّ أن يُمال منها إلى بعض فيؤخذ به، ويُعان عليه، ولكن على الترتيب الذي نصَّ عليه ربَّانيُّو العلماء، فإذا دخل في ذلك البعض فمال به طبعه إليه على الخصوص، وأحبه أكثر من غيره؛ تُرك وما أحب، وخصَّ بأهله؛ فوجب عليه إنهاضه فيه حتى يأخذ منه ما قُدر له، من غير إهمال له ولا تركٍ لمراعاته، ثم إن وقف هنالك فحسن، وإن طلب الأخذ في غيره أو طُلب به؛ فُعل معه فيه ما فُعل فيما قبله، وهكذا إلى أن ينتهي.
كما لو بدأ بعلم العربية –مثلاً- فإنه الأحق بالتقديم-؛ فإنه يُصرف إلى معلِّميها؛ فصار من رعيَّتهم، وصاروا هم رعاة له، فوجب عليهم حفظه فيما طلب بحسب ما يليق به وبهم، فإن انتهض عزمه بعد إلى أن صار يحذق القرآن؛ صار من رعيَّتهم، وصاروا هم رعاة له كذلك، ومثاله إن طلب الحديث أو التفقه في الدين إلى سائر ما يتعلق بالشريعة من العلوم، وهكذا الترتيب فيمن ظهر عليه وصف الإقدام والشجاعة وتدبير الأمور، فيُمال به نحو ذلك، ويعلم آدابه المشتركة، ثم يُصار به إلى ما هو الأولى فالأولى من صنائع التدبير؛ كالعرافة، أو النقابة، أو الجندية، أو الهداية، أو الإمامة، أو غير ذلك مما يليق به، وما ظهر له فيه نجابة ونهوض، وبذلك يتربى لكل فعل هو فرض كفاية قوم؛ لأنه سير أولاً في طريق مشترك، فحيث وقف السائر وعجز عن السير؛ فقد وقف في مرتبة محتاج إليها في الجملة، وإن كان به قوة زاد في السير إلى أن يصل إلى أقصى الغايات في المفروضات الكفائية، وفي التي يندر من يصل إليها؛ كالاجتهاد في الشريعة، والإمارة؛ فبذلك تستقيم أحوال الدنيا وأعمال الآخرة.
فأنت ترى أنَّ التَّرقي في طلب الكفاية ليس على ترتيب واحد، ولا وهو على الكافة بإطلاق، ولا على البعض بإطلاق، ولا هو مطلوب من حيث المقاصد دون الوسائل، ولا بالعكس، بل لا يصح أن يُنظَر فيه نظر واحد حتى يُفصَّل بنحو من هذا التفصيل، ويوزَّع في أهل الإسلام بمثل هذا التوزيع؛ وإلا، لم ينضبط القول فيه بوجه من الوجوه، والله أعلم وأحكم»(3).
هذه هي نظرية الشاطبي التربوية والاجتماعية، في توزيع القوى البشرية على التخصصات العلمية والمهنية، وفق القدرات والاستعدادات.
وهو يتوجه بهذه النظرية إلى ثلاثة أصناف:
أوّلاً : أولي الأمر ومن في حكمهم، الذين يتعين عليهم الالتفات إلى حاجات المجتمع وجهاتها المختلفة، ومراعاة أولى الناس بها وتوجيههم إليها، وإعانتهم على القيام بها، وتحريضهم على الدوام عليها، سواء كان ذلك يتعلق بالعلوم والفنون، أم بالصناعات والأعمال المهنية والحربية والسياسية.
ثانياً : الأساتذة والمعلمين، والمشرفين على التعليم، الذين وجه جل كلامه إليهم، فعليهم أن يوجهوا الصبيان – بعد أن يأخذوا القدر المشترك من الآداب والعلوم – إلى ما يليق بكل منهم، فإذا مال بعضهم إلى علم  على الخصوص، وأحبه أكثر من غيره؛ تُرِك وما أحب وخُصَّ بأهله – يعني أساتذته- فوجب عليهم إنهاضه فيه، حتى يأخذ منه ما قدر له . . . وهكذا الترتيب فيمن ظهر عليه وصف الإقدام والشجاعة وتدبير الأمور، فيمال به إلى ما أبرز له في نجابة ونهوض.
ثالثاً : الطلبة أنفسهم، حيث ينبغي أن يتوجه كل منهم إلى طلب ما هو متهيئ له ومناسب لاستعداده، وما يرى نفسه أنه سيجلي فيه وينفع الأمة، ويسد الثغرة، فهنا يصبح فرض الكفاية فرض عين عليه، فيجب عليه استكمال أدواته، والسير فيه إلى غاية الشوط المقدور عليه.
وقد نقل الشاطبي هنا عن الإمام مالك أنه سُئل عن طلب العلم: أفرض هو؟ فقال: «أما على كل الناس فلا»(4)، يعني به القدر الزائد على الفرض العيني، وقال مالك أيضاً: «أما من كان فيه موضع للإمامة، فالاجتهاد في طلب العلم عليه واجب، والأخذ في العناية بالعلم على قدر النية فيه».
ليت المسلمين استفادوا من هذه النظرية الشاطبية، وقاموا بفروض الكفايات على النحو الذي شرحه الشاطبي –رحمه الله-؛ ولكن الشاطبي كمعاصره –ابن خلدون-(5) ظهرا في وقت كانت الأمة في طريق الانحدار، فلم تستفد من فكر الرجلين المجددين، ولم تقتبس من نورهما ما يسدد خطاها، ويضيء لها الطريق.
الإصلاح السياسي:
للشاطبي آراء في الإصلاح السياسي مستمدة من الكتاب والسنة وعمل سلف الأمة، ولا سيما الخلفاء الراشدين منهم، وهو يفيد المسلمين اليوم، ويغنيهم عن كثير من النظريات السياسية المستوردة.
ونستطيع أن نجمل نظريته في الإصلاح في هذا الباب بالأمور الآتية:
أوّلاً : لا سلطة إلا للشرع، والناس أمام أحكام الشريعة سواء، وهو بهذا يوضح (نظرية السيادة) وأنها للشرع، خلافاً للأنظمة الديمقراطية التي هي من مبتدعات النظم الغربية، قال –رحمه الله تعالى-: «ولكن الآية – أي: قول الله –تعالى- {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُون} [المائدة: 50] – والحديث وما كان في معناهما أثبت أصلاً في الشريعة مطرداً لا ينخرم، وعاماً لا يتخصص، ومطلقاً لا يتقيد، وهو أن الصغير من المكلفين، والكبير، والشريف، والدنيء، والرفيع والوضيع، في أحكام الشريعة سواء، فكل من خرج عن مقتضى هذا الأصل، خرج من السُّنَّة إلى البدعة، ومن الاستقامة إلى الاعوجاج، وتحت هذا الرمز تفاصيل عظيمة الموقع»(6).
وينكر أن تكون إرادة الحاكم والولي هي القانون والدستور، يقول عن الصحابة –وعلى رأسهم ولاتهم وخلفاؤهم-: «لم يقل أحد منهم: إني حكمت في هذا بكذا؛ لأن طبعي مال إليه، أو لأنه يوافق محبتي ورضاي، ولو قال ذلك؛ لاشتدّ عليه النكير، وقيل له: من أين لك أن تحكم على عباد الله بمحض ميل النفس، وهوى القلب؟! هذا مقطوع ببطلانه»(7).
وقـوله: «مـن أين لك . . .» فيه إشارة إلى مراقبة الأمة (علمائها ومصلحيها) على الحكام، وفيه إشارة إلى وجود الرأي العام – فيما يسمى هذه الأيام- في الحد من سلطة الحاكم إذا رام الخروج عن القانون (الشريعة).
وركز الشاطبي على هذا الأصل تركيزاً قويّاً، ونقل عن الولاة ما يؤكد أنه كان معمولاً به، فها هو ينقل عن أبي بكر الصـديق قولـه: «لست تاركاً شيئاً كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل به؛ إلا عملت به»(8)، والتقييد بعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم تقييد بسلطة الشرع، وذكر في هذا الباب كلاماً حسناً لعمر بن عبدالعزيز(9)، قال عنه: «عنى به وبحفظه العلماء، وكان يعجب مالكاً جدّاً» و «إنه كلام مختصر جمع أصولاً حسنة»(10).
«فالحاصل مما تقدم أن تحكيم الرجال من غير التفات إلى كونهم وسائل للحكم الشرعي المطلوب شرعاً ضلال، ولا توفيق إلا بالله، وإن الحجة القاطعة والحاكم الأعلى هو الشرع لا غيره»(11).
ثا نياً : المشرِّع هو الله –سبحانه-:
ركزَّ الشاطبي على أن المشرع هو الله وحده، وأن المفتي قائم في الأمة مقام النبي صلى الله عليه وسلم(12) و «أن النبي كان مبلغاً ومبيِّناً» وأن المفتي «نائب عنه صلى الله عليه وسلم في تبليغ الأحكام»، ومع هذا فقد اعتبر «أن المفتي شارع من وجه، لأن ما يبلغه من الشريعة، إما منقول عن صاحبها، وإما مستنبط من المنقول، فالأول يكون فيه مبلغاً، والثاني يكون فيه قائماً مقامه في إنشاء الأحكام؛ وإنشاء الأحكام إنما هو للشارع، فإذا كان للمجتهد إنشاء الأحكام بحسب نظره واجتهاده، فهو من هذا الوجه شارع واجب اتباعه والعمل على وفق ما قاله»(13)، ويقول: «وعلى الجملة؛ فالمفتي مخبر عن الله كالنبي، وموقع للشريعة على أفعال المكلفين بحسب نظره كالنبي، ونافذ أمره في الأمة بمنشود الخلافة كالنبي، ولذا سُموا أولي الأمر، وقرنت طاعتهم بطاعة الله ورسوله»(14).
فالمفتي والعالم ليس مشرعاً باطراد، وليس الواجب اتباعه؛ لأنه مفتٍ(15)، وإلا للزم الناس فتاوى المجتهدين جميعاً على اختلافها وتناقضها، وإنما يطاع لما معه من أدلة وبراهين، ولما يقوم به في الأمة من التزكية والتعليم، فهو قائم فيها مقام النبي صلى الله عليه وسلم، عامل بمهمته صلى الله عليه وسلم.
ثا لثاً : مهام تولي السلطة واختيار الحاكم للأمة:
«من كان قادراً على الولاية، فهو المطلوب بإقامتها، ومن لا يقدر عليها، مطلوب بأمر آخر، وهو إقامة ذلك القادر، وإجباره على القيام بها، فالقادر إذاً مطلوب بإقامة الفرض، وغير القادر مطلوب بتقديم ذلك القادر، إذ لا يتوصل إلى قيام القادر إلا بالإقامة، من باب ما لا يتم الواجب إلا به»(16).
ومهام السلطة هي القيام «بمصالح عامة لجميع الخلق»(17) إذ أن الوالي «حقيقته أنه خليفة الله(18) في عباده، على حسب قدرته وما هيء له من ذلك»(19)، فإقامته من باب (المطلوب الكفائي)، فالسلطة وتولي مهامها من ضرورات الدين، إذ القيام بمصالح الخلق ورعايتهم لم يوكل للفرد وحده، وإنما هو واجب كفائي على الأمة، يؤدَّى «معرىً من الحظ شرعاً» إذ القائمون به «ممنوعون من استجلاب الحظوظ لأنفسهم بما قاموا به من ذلك، فلا يجوز لوالٍ أن يأخذ أجرة ممن تولاهم على ولايته عليهم»، و «لذلك امتنعت الرشا والهدايا المقصود بها نفس الولاية؛ لأن استجلاب المصلحة هنا مؤدٍ إلى مفسدة عامة، تضاد حكمة الشريعة في نصب هذه الولايات، وعلى هذا المسلك يجري العدل في جميع الأنام، ويصلح النظام، وعلى خلافه يجري الجور في الأحكام، وهدم قواعد الإسلام»(20).
فلا فصل في الشريعة بين (مصالح العباد) و (مهام السلطة)، وبهذا يجيب الشاطبي  على سؤال انشغل به كثيرٌ من الناس: هل الدولة (ضرورة دينية) أم (ضرورة دنيوية)؟ وبيّن أن الإصلاح في قيام الوالي بمهامه أن يتجرد عن دواعي هواه، ويمتثل أوامر مولاه، إذ هو قائم بواجب شرعي كفائي، لا تقوم مصالح الدنيا من حفظ النفس والعقل والعرض والمال إلا به، فضلاً عن أمور الدين وتكاليفه المناطة به، قال في بيان مهمة الإمام: «يقدم لجريان الأحكام، وتسكين ثورة الثائرين، والحياطة على دماء المسلمين وأموالهم»(21)، وهذا يلتقي مع ما قررناه في (مجال الإصلاح الخلقي) أن (أصل كل الأدواء الأهواء).
رابعاً : الحاكم وحظوظه:
ما قررناه –آنفاً- لا يتنافى مع ما للحاكم من قصد إلى مباحات، ليتنعّم بها، من «أكل المستلذات، ولباس اللينات، وركوب الفارهات، ونكاح الجميلات»(22)، وما له من حقوق في بيت المال؛ فإنه بوصفه «قائماً بوظيفة عامة، لا يتفرغ بسببها لأموره الخاصة به في القيام بمصالحه ونيل حظوظه، وجب على العامة أن يقوموا له بذلك، ويتكلفوا له بما يفرِّغ باله للنظر في مصالحهم، من بيوت أموالهم المرصدة لمصالحهم، إلى ما أشبه ذلك مما هو راجع إلى نيل حظه على الخصوص، فأنت تراه لا يعرى عن نيل حظوظه الدنيوية في طريق تجرده عن حظوظه، وما له في الآخرة من النعيم أعظم»(23)، فمهمته من حيث العموم يصح فيها التجرد من الحظ، ومن حيث الخصوص فإنها كسائر الصنائع الخاصة بالإنسان في الاكتساب يدخلها الحظ، ولا تناقض في هذا؛ فإن جهة الأمر بلا حظ غير وجه الحظ، فيؤمر انتداباً أن يقوم به لا لحظ، ثم يبذل له الحظ في موطن ضرورة أو غير ضرورة(24).

خامساً : المقاصد والإصلاح السياسي:
أقام الشاطبي صرحاً شامخاً لنظرية المقاصد، وهي تعتبر –بحقّ- الركن في بناء الصرح التشريعي كله، ولها كبير الأثر في مجال الإصلاح السياسي، إذ من خلالها يتسع النظر للقضايا العامة، كمراقبة السلطة التنفيذية، وسياسة الدولة التشريعية والاجتماعية، هل تسير طبقاً لأحكام الشرع في تحقيق مصالح المسلمين، وإبعاد المفاسد عنهم، أم لا؟
ويظهر أثرها جليّاً في محاور مهمة عديدة، منها:
- عدم الجمود، والاجتهاد في النوازل:
أساس الاجتهاد في هذا المجال (القائم على تحقيق المصلحة) هو المقاصد الشرعية، وذلك كله قائم على شرع الله، الذي مصدره (العقيدة) وليس (القانون الطبيعي) أو (قواعد العدالة)! في مبادئ اصطلح عليها الغربيون ومن سار في فلكهم.
- الأصالة والتمايز والتطور:
بناء على ما سبق، فنحن أمام (ثوابت) مستمدة من (الشريعة) لتخدم في ترسيخ (العقيدة)، وتسدد وتعمق النظرة إلى العلاقة بين (الإنسان) و (المقصد من خلقه) و (المآل الذي سيواجهه)،  وبهذا يتحصّل المسلم على (الأصالة) التي يتمايز بها عن (الغربيين)، ولا تذوِّب شخصيته، ويحافظ على (قوامها)، فهذه (الثوابت) تمنعنا من تعطيل الشريعة، ومن اتباع مناهج غير قائمة على العقيدة الصحيحة في الاستنباط والحكم، وبذا نرفض الاقتباس من قوانين الغرب ونظمه، وهذا الرفض ليس مصدره (الجمود) أو (الجهل) أو (الحقد)، وإنما مصدره ما ذكرنا من (الأصالة) و (التمايز).
وأما (التطور)؛ فإن المقاصد الشرعية هي التي تنير سبيلنا، وعلى ضوئها يحصل التطور الحق، ونستمد من خلالها مواقفنا في مواقعنا من كل ما يفد إلينا من تيارات أجنبية، ونجعلها معياراً ومقياساً محكماً، فنأخذ منها في غير النظم والقوانين والتشريعات ما يكون مصدر قوة لنا، أما ما يكون باعثاً على الانحلال والفساد فلا، ولا ينبغي أن نخدع بما يسميه الببغاوات والمقلدون (تطوراً) وإنما هو بالنسبة إلينا مسخ.

وللبحث بقية . . .