أهمية علم الطب في الكتاب والسُّنَّة - جمعية مركز الإمام الألباني للدراسات والأبحاث

أهمية علم الطب في الكتاب والسُّنَّة

  • محمد موسى نصر
  • 11/08/2018
  • 2232

لقد جاء الوحي سواء كان وحي القرآن أم وحي السنة، بطب القلوب والأبدان، وبيان أمراضهما وشفائهما مصـداقاً لقوله –تعالى-: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:38]، وقوله: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ } [الإسراء:82]، بل جعـل الله –تعالـى- كـلامـه ووحيـه شفـاءً، قـال –تعالى-: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ} [فصلت:44].
وقد ذكرنا في حلقة سابقة أن القرآن أشار إلى أصول قواعـد الطب الثلاثـة – حفظ الصحة، والحمية من المؤذي، واستفراغ المادة الفاسدة- في أكثر من آية.
ولقد تجاوزت آيات الطب في القرآن الأربعين آية، ذلك العلماء والأطباء الذين اعتنوا بالطب النّبوي والإسلامي.
وطب الأبدان يشترك فيه الناس جميعاً –أنبياء وغير أنبياء-، أمّا طب القلوب والأرواح فلا يتوصل إليه إلا بالوحي، فلا سبيل لأحدٍ إليه إلا بوحي الكتاب والسُّنَّة، ويشمل هذا النوع من الطب: «تهذيب النفوس، ورياضتها، ودفع هواها، وإصلاح العقل والفكر، والحث على الفضيلة، ومجانبة الرذيلة، والخلق الدنيء، والكذب، والحقد، وسلامة الصدر من الحسد والغش، والنفاق، وعشق الهوى، والمجون، وشَرَه النفوس.
وطب القلوب يسكن الغضب، ويصفي الذهن من الغم والهم، وهو رياضة روحية، ومنه الاعتماد والتوكل على الله، والالتجاء إليه، والدعاء والاستغفار، والصدقة والإحسان؛ فإن في هذه الأمور من التأثير في شفاء مالا يصل إليه علم الأطباء والأدوية، سواء في القديم أو الحديث، وقد جُرب هذا على مر العصور، وحصل لكثير من الناس في مختلف المجتمعات فيه الشفاء»(1).
قال الإمام ابن قيم الجوزية –رحمه الله-: «وطب القرآن وشفاؤه لا ينتفع به إلا من تلقاه بالقبول والرضا والاعتقاد، ولا يُنكر عدم انتفاع كثيرين من المرضى بالقرآن، وبالطب النبوي، وذلك لعدم كمال التلقي والاعتقاد، وليس هذا راجعاً لقصور في العلاج، وإنما لفساد؛ وشفاء القرآن لا يناسب إلا الأبدان الطيبة، والأرواح الطيبة، والقلوب الحية»(2).
أهمية الطب في السنة:
اعتنت السُّنَّة النّبوية بصحة الأجساد ووقايتها من الأمراض، ودفع المؤذي عنها؛ فأمرت بالحفاظ على البيئة ليسلم ساكنوها من الإنسان والحيوان؛ لأنَّ سلامة التربة والماء والهواء من عوامل بقاء الإنسان واستمرار بقائه، ولذلك أمرت الشريعة بالطهارة والنظافة؛ بل جعلت السنةُ الطهارةَ شطر الإيمان بنص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الطهور شطر الإيمان»(3).
ومعلوم أن الجراثيم والميكروبات تتكاثر حيث تغيب النظافة؛ فلا بدّ من نظافة المطعم، والمشرب، والملبس، والبدن، والمأوى، وموارد المياه، وطرق الناس، وأماكن استظلالهم، بل قد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أفسد على الناس أماكن تجمعهم وحضورهم بتلويثها، حيث قال: «اتقوا الملاعن الثلاثة . .» (4)، وقولـه صلى الله عليه وسلم: «لا يبولن أحدكم في الماء الدائم، ثم يغتسل فيه»(5).
وجعل الإسلامُ إماطة الأذى عن الطريق من شعب الإيمان(6).
«كل هذا يعني أن الإسلام دين النظافة والصحة، فغسل الإناء مما قد يعلق به من ولوغ الكلب من الديدان التي تسبب أمراض الرئتين، والكبد، والكليتين، والمخ، والأعصاب التناسلية، وغيرها مما ثبت بالعلم.
وحدوث الوباء وانتشاره من الأقذار والمستنقعات في الطرقات والأماكن العامة، كل هذه مصدر رئيس لانتشار الميكروبات والوباء، وحدوث الأمراض الخطيرة على المجتمع، وكثيراً ما تحدث الأمراض الجلدية وغيرها بسبب تلوث الماء، واستعماله في الغسل والشراب»(7).
فالله –تعالى- يحب الطهارة، ويحب المتطهرين، قال –تعالى-: {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة:222]، وقال –تعالى-: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة:108]؛ فالطهارة في الباطن والظاهر، والنفس، والبدن، من أسباب نيل محبة الله، ومحبة رسوله؛ لأن الشياطين تميل إلى الأنجاس والأرجاس باطناً وظاهراً، وتقترن به، وترافقهم حيث حلوا، وحيث ارتحلوا، وقد نزلت الآية السابقة في أهل قباء؛ كانوا يستنجون بالماء، فنزلت فيهم هذه الآية، صححه ابن خزيمة.
وفي استعمال الغسل والوضوء عند كل صلاة، وتكريره مبالغة في النظافة، ووقاية للجسم، وعناية بالمسلم في كل حالة من حالاته حتى يظهر بصورة الجمال في جسمه، ومنظره، وملبسه، ومسكنه، ومجتمعه، وفي المواطن الاجتماعية مع الناس، ومع أسرته، وزوجته كل ذلك فيه مراعاة وعناية بصحة الإنسان بجميع جوانب حياته، وهذا دليل واضح على اهتمام الإسلام بالصحة العامة، والرعاية، فالإنسان  مطالب في اليوم والليلة بخمس صلوات تدعوه إلى أن ينظف نفسه بالماء خمس مرات في أوقات مختلفة . . .، وفي أعمال الوضوء من غسل اليدين قبل إدخالهما في الإناء؛ محافظة على الطهارة والصحة، ثم المضمضة التي تزيل ما تراكم في الفم من بقايا الأطعمة بين الأسنان، فتسبب تسوساً يبخر منه الفم، ويفسد، تحصل الأكلة في الأسنان، وفي مشروعية السواك والتأكيد على استعماله والحث عليه، كل هذا فيه أكثر دلالة على بقاء صحة الأسنان واللثة على أحسن وأكمل منظر وقوة(8).
وهذا قليل من كثير، ولعلنا نبحث هذا الموضوع بأوسع من ذلك في غير هذا الموضع إن شاء الله.
أمر السنة بالتداوي:
في «الصحيحين» من حديث أبي هريرة –رضي الله عنه-، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أنزل الله من داء؛ إلا أنزل له شفاء»، وفي لفظ: «إن الله لم ينزل داءً إلا أنزل له شفاء، علمه من علمه، وجهله من جهله»، ولهذا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالتداوي فقال: «عباد الله تداووا؛ فإن الله – عز وجل- لم يضع داءً إلا وضع له شفاء، غير داء واحد. قالوا: وما هو؟ قال: الهرم»(9).
وقال ابن القيم –رحمه الله- في قوله صلى الله عليه وسلم: «لكل داء دواء» تقوية لنفس المريض والطبيب، وحث على طلب ذلك الدواء، والتفتيش عليه، فإن المريض إذا استشعرت نفسه أن لدائه دواء يزيله تعلق قلبه برفع الرجاء، وبردت عنده حرارة اليائس، وانفتح له باب الرجاء، ومتى قويت نفسه انبعثت حرارته الغريزية، وكان ذلك سبباً لقوة الأرواح الحيوانية والنباتية والطبيعية، ومتى قويت هذه الأرواح، قويت القوى التي هي حامل لها، فقهرت المرض ودفعته، وكذلك الطبيب إذا علم أن لهذا الداء، دواء أمكنه، طلبه والتفتيشَ عليه، وأمراض الأبدان على وزن أمراض القلوب، وما جعل الله للقلب مرضاً إلا جعل له شفاء بضده، فإن علمه صاحب الدواء واستعمله، وصادف داء قلبه أبرأه بإذن الله»(10).
الإرشاد والوصية بالطبيب الأحذق:
أمر النبي صلى الله عليه وسلم ابن خالته سعد بن أبي وقاص –عندما مرض- أن يطلب الحارث بن كلدة الثقفي – الذي اشتهر بالطب في زمنه- وأخبره أنه مفؤود، وأن عليه أن يستعمل الدواء الذي وصفه له.
وأمر صلى الله عليه وسلم بتضمين الطبيب إذا لم يكن طبيباً حاذقاً، بل ادعى الطب ادعاءً، قال صلى الله عليه وسلم : «من تطبب ولم يعلم منه طب قبل ذلك فهو ضامن»(11).
ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يوصي بالأحذق من الأطباء، وبالأحذق من الحجامين، وقد احتجم وأمر أمته بالحجامة(12).
عناية العلماء بالطب النبوي:
جمع العلماء ما ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم من أحاديث متعلقة بالطب، وأفردوا لها أبواباً في كتبهم، وقد أفردوا في الطب كتباً مستقلة، سميت (بالطب النبوي) جمعوا فيها الأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم في أبواب الطب المختلفة.
1- وأول من أفرد رسالة في حفظ الصحة، هو الإمام علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر ابن علي زين العابدين بن الحسين، وهي رسالة وضعها بناءً على طلب من المأمون العباسي.
2- ثم تبعه الفقيه الحجة الأديب البغوي عبدالملك بن حبيب الأندلسي السلمي، المتوفى سنة (238 هـ)، وكتابه مطبوع بتحقيق وشرح الدكتور البار ، طبع دار القلم – دمشق، والدار الشامية – بيروت.
3- كما ألف في الطب ابن أبي عاصم المتوفى (287هـ)، وكتابه «الطب والأمراض»، وألف أبو نعيم الأصبهاني المتوفى(430هـ) كتاباً في الطب النبوي، احتوى كتاب ابن السني، وأضاف إليه أشياء أخرى كثيرة، ولا زال الكتاب مخطوطاً.
4- ثم ألف الموفق عبداللطيف البغدادي شرح أربعين حديثاً من سنن ابن ماجه سمّاها «الأربعين الطيبة» حققه د. عبد المعطي قلعجي، وفيها تصحيفات قبيحة.
5- كما ألف ابن طرخان الحموي كتاب «الأحكام النبوية في الصناعة الطبية» شرح فيه أربعين حديثاً مما اتفق عليه الشيخان من الأحاديث الواردة في الطب، وهو مطبوع بمصر.
6- وألف الإمام ابن قيم الجوزية كتاب الطب النبوي ضمن كتابه الكبير «زاد المعاد في هدي خير العباد» طبع مؤسسة الرسالة، ثم طبع المجلد المستقل بالطب النبوي –وحده- مرات.
7- وللإمام الذهبي كتاباً في الطب النبوي طبع على هامش «تسهيل المنافع»، ثم طبع مفرداً في القاهرة –مطبعة الحلبي، ثم طبع محققاً.
8- ثم ألف الإمام السيوطي كتاباً في الطب سماه «المنهج السوي، والمنهل الروي في الطب النبوي»، بتحقيق الأهدل – طبع دار أسامة.
ولا زال التأليف في الطب النبوي وربطه بالطب الحديث قائماً؛ فهو علم تتوجه أنظار الباحثين والمهتمين إليه، ونسأل الله –تعالى- أن نرى اليوم الذي يُدرس فيه هذا العلم في الجامعات والمعاهد، ويتخصص فيه أفراد يداوون عباد الله في عياداتهم، العامة والخاصة، وما ذلك على الله بعزيز.