أهمية علم الطِّب في الكتابِ والسُّنَّةِ وآثارِ السَّلفِ - جمعية مركز الإمام الألباني للدراسات والأبحاث

أهمية علم الطِّب في الكتابِ والسُّنَّةِ وآثارِ السَّلفِ

  • محمد موسى نصر
  • 11/08/2018
  • 15677

عن ابن مسعود –رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما أنزل الله من داء إلا وأنزل معه شفاءً؛ علمه من علمه، وجهله من جهله». [أخرجه ابن ماجه، والحاكم، وابن السني، وأبو نعيم]
قال الحافظ الذهبي: قلنا: إن ذلك يقتضي تحريك الهمم، وحث العزائم على تعلم الطب، وهو لغة: الحذق.
«علمه من علمه»: إشارة إلى الأطباء، «وجهله من جهله» أي: من باقي الناس.
وقال الإمام الشافعي –رحمه الله-: «لا أعلم علماً -بعد الحلال والحرام- أنبل من الطب».
وقال الحافظ أبو طاهر السِّلفي: «أخبرني الثقفي: سمعت أبا عمر بن بَالَوَيْهِ: سمعت الربيع: سمعت الشافعي يقول: العلم علمان: علم الأديان؛ الفقه، وعلم الأبدان؛ الطب».
وقال الحسن بن سفيان، حدثنا حرملة، قال: كان الشافعي يتلهف على ما ضيّعه المسلمون من الطب، ويقول: ضيّعوا ثلث العلم، ووكلوا إلى اليهود والنصارى.
وقال ابن أبي حاتم في «مناقب الشافعي»: حدثنا أبي: ثنا يونس بن عبد الأعلى: سمعت الشافعي يقول: «إن أهل الكتاب قد غلبونا على الطب».
وأخرج أبو نعيم في «مناقبه» من طريق أبي حسين البصري قال: سمعت طبيباً بمصر يقول: ورد الشافعي مصر، فذاكرني بالطب حتى ظننت أنه لا يحسن غيره، فقلت له: أقرأ عليك شيئاً من كتاب أبقراط؟ فأشار إلى الجامع، وقال: إن هؤلاء لا يتركوني.
- عناية أم المؤمنين عائشة بالطب مع ما تميزت به من فقه:
عن هشام بن عروة قال: ما رأيت أحداً أعلم بالطب من عائشة، فقلتُ: يا خالة! ممن تعلمتِ الطب؟ قالت: أسمع الناس تنعت بعضهم، فأحفظ.
وفي لفظ عنه، قال: قلت لعائشة: يا أم المؤمنين! أعجب من بصرك بالطب!! قالت: يا ابن أخي! إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما طَعَنَ في السن سقم، فوفدت الوفود فنعتت، فمن ثَمّ.
 وفي آخر عنها -رضي الله عنهما- قالت: يا ابن أخي! كان يمرض الإنسان من أهلي، فينعت له رسول الله صلى الله عليه وسلم فأَعيه، فأنعته للناس. رواه أبو نعيم.
قلت: واختلف العلماء؛ هل الطب إلهام من الله -تعالى-، أو هو تجارب وتعليم؟! فقال الذهبي: قال أبقراط وغيره: الطب إلهام من الله –تعالى-، وأبقراط رئيس هذه الصناعة ومذهبه فيها هو المذهب الصحيح، وتبعه عليه جالينوس إمام هذه الصناعة، وهما معظمان عند الأطباء تعظيماً كثيراً . . .
وقيل: إنه حصل بالتجارب، وقيل: بالقياس، والأغلب أنه من تعليم الله -عزّ وجلّ- وإلهامه وهو الحقّ، ثم أُضيف إليه التجارب والقياس، وقد رأينا الناس وبعض الحيوان يستعملون الطب طبعاً وإلهاماً؛ فإن كل من أحس بالجوع طلب الغذاء، وكذا إذا عطش طلب الماء، وإذا كرب تَبَرَّدَ؛ وبالضد، وإذا أُتخم أعرض عن الأكل، وهذا من الطب، فالحية إذا خرجت بعد الشتاء [من جحرها] وقد كل بصرها، تأتي إلى الرازيانج -وهو الشومر- فتأكل منه، وتقلب عينيها عليه فتبصر، وقد نبَّه الأطباء على استعماله عند ظلمة البصر، وكذا الطائر الغواص على السمك؛ إذا حبس طبعه حقن نفسه بماء البحر، وفرخ الخطاف إذا عمي حملت إليه أمه الماميران من الصين فيبصر . . .، والثعلب إذا مرض في الربيع؛ يأكل حشيشاً يسهله فيصح، وكذلك الهر تأكله فيعينها على القيء، ومعلوم أن الحشيش ليس من أغذيتها، فسبحان من أعطى كل شيء خلقه ثم هدى(1).
قلت: فالطيور والحيوانات تدفع أمراضها بإلهام من الله -تعالى- لها، وبوحي خاص من الله لها {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ}.
أما الطب الذي وصلنا عن أنبياء الله -وخصوصاً عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم-؛ فهو وحي من الله -تعالى-. فالطب النبوي وعلاجات الرسول صلى الله عليه وسلم الثابتة بالأحاديث؛ كلها وحي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها.
لذلك فهي علاجات ناجعة، لا يتطرق إليها الشك البتة، من ذلك مداواة الرسول صلى الله عليه وسلم مرض العيون بالكَمْأةِ والإثمد، ومداوته للحمى بالماء البارد يسن على المحموم سحراً على ثلاثة أيام، وكذا مداواته صلى الله عليه وسلم للمحزون بالتلبينة، ولمن اشتكى ألماً في رأسه بالحجامة، ولمن اشتكى ألماً في رجليه بالحناء، وأمثال ذلك كثير في السنة المطهرة.
وكثير من العلاجات الشعبية القديمة -يونانية كانت أم عربية- تقوم على التجربة أو الصدفة، أو الإلهام، ولربما قام بعضها على الاستعانة بالشياطين والكهنة، وهذا ما يحرمه الإسلام تحريماً أكيداً شديداً، ويعدُّه باباً من الشرك والكفر عياذاً بالله.
 أما الطب الحديث؛ فأكثره يقوم على التجربة العلمية والمختبرات العملية، وما يناسب بعض الناس قد لا يناسب آخرين، والعود إلى الطبيعة أسلم من المضاعفات التي تنتج عن المستحضرات الكيماوية التي تعمل عملها في بدن الإنسان، ولو بعد حين؛ فإن الدواء إذا لم يجد ما يحلله من الداء؛ عبث بالصحة، كما قرر ذلك الأطباء القدماء، ولذلك كانوا يعالجون بالغذاء قبل الدواء، وبالمفرد قبل المركب، وبالبسيط قبل المعقد، وبحفظ الصحة بالحِمْية؛ فإن المريض إذا تُرك للطبيعة فإنه يقوى على المرض؛ لأن الله -تعالى- خلق في جسم الإنسان مقاومة ذاتية للمرض، وهو ما يسمى في الطب الحديث بجهاز المناعة، فسبحان من خلق كل شيء فقدره تقديراً!
قال الإمام الذهبي: تشريع النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه يدخل فيه كلّ الأمة؛ إلا أن يخصه دليل، وتطبيبه لأصحابه وأهل أرضه خاص بطباعهم؛ إلا أن يدل دليل على التعميم.
قلت: ومن رحمة الله بالخلق أن جعل شفاءهم وعلاجهم في أعشاب أرضهم، قال ابن القيم –رحمه الله- في «الطب النبوي»: «كان علاجه صلى الله عليه وسلم للمريض ثلاثة أنواع:
أحدها: بالأدوية الطبيعية.
والثاني: بالأدوية الإلهية.
والثالث: بالمركب من الأمرين».
وكل ذلك وردت أدلته في السنة النبوية الصحيحة، والحمد لله، وقد بينا أمثلة ذلك فيما تقدم من حلقات.
وبالله التوفيق.