دفع مضارِّ السُّموم بأضدادها - جمعية مركز الإمام الألباني للدراسات والأبحاث

دفع مضارِّ السُّموم بأضدادها

  • محمد موسى نصر
  • 25/06/2018
  • 827

وكان مِن هديه صلى الله عليه وسلم إصلاح الطعام الذي يقع فيه الذباب إصلاحاً له ودفعاً للمضرة عنه للاستفادة منه ما أمكن ما لم تَعَفْهُ نفسُ الآكل، ففي ((الصحيحين)) مِن حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فامقلوه؛ فإن في أحد جناحيه داء وفي الآخر شفاء)).
وفي ((سنن ابن ماجه)) بسند صحيح من حديث أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أحد جناحي الذباب سم والآخر شفاء، فإذا وقع في الطعام فامقلوه، فإنه يقدم السٌّمَّ ويؤخر الشفاء)).
قال ابن القيم -رحمه الله-: ((هذا الحديث فيه أمران: أمر فقهي، وأمر طبي، فأما الفقهي: فهو دليل ظاهر الدلالة جداً على أن الذباب إذا مات في ماء أو مائع فإنه لا ينجِّسه، وهذا قول جمهور العلماء، ولا يُعرف في السلف مخالف في ذلك.
ووجه الاستدلال به أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بِمَقْلِه، وهو غمسُه في الطعام، ومعلومٌ أنه يموت من ذلك، ولا سيما إذا كان الطَّعام حاراً، فلو كان يُنجسه لكان أمراً بإفساد الطعام، وهو صلى الله عليه وسلم إنما أمر بإصلاحه، ثم عُدِّيَ هذا الحكم(1) إلى كل ما لا نَفْسَ له سائلة؛ كالنحلة والزُّنبُور والعنكبوت، وأشباه ذلك، إذ الحكم يعُمُّ بعموم علته، وينتفي لانتفاء سببه، فلمَّا كان سبب التنجيس هو الدم المحتقن في الحيوان بموته، وكان ذلك مفقوداً فيما لا دم له سائل انتفى الحكم بالتنجيس لانتفاء علته.
ثم قال: من لم يحكُم بنجاسة عظم الميتة: إذا كان هذا ثابتاً في الحيوان الكامل مع ما فيه مِن الرُّطوبات، والفضلات، وعدم الصلابة، فثبوته في العظم الذي هو أبعدُ عن الرُّطوبات والفضلات، واحتقان الدم أولى، وهذا في غاية القوة فالمصير إليه أولى.
وأول من حُفظ عنه في الإسلام أنه تكلم بهذه اللفظة، فقال: ما لا نفسَ له سائلة؛ إبراهيم النخعي وعنه تلقاها الفقهاءُ.
والنَّفس في اللغة: يُعَبَّرُ بها عن الدَّم، ومنه نَفِست المرأة -بفتح النون- إذا حاضت، ونُفِست -بضمها- إذا ولدت)) (2).
ثم قال -يرحمه الله-:
((وأما المعنى الطبي، فقال أبو عبيد: معنى امقلوه: اغمسوه ليخرج الشفاء منه، كما خرج الداء، يقال للرجلين: هما يتماقلان، إذا تغاطّا في الماء.
واعلم أن في الذباب عندهم قوة سُمِّية يدل عليها الورم، والحِكّة العارضة عن لسعه، وهي بمنزلة السِّلاح، فإذا سقط فيما يؤذيه اتقاه بسلاحه، فأمر النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن يُقابل تلك السُّمّية بما أودعه الله -سبحانه- في جناحه الآخر من الشفاء، فيُغمس كُلُّه في الماء والطعام، فيقابل المادة السُّمية المادة النافعة، فيزول ضررُها، وهذا طِب لا يهتدي إليه كبار الأطباء وأئمتهم، بل هو خارجٌ من مشكاة النُّبوة، ومع هذا فالطبيب العالم العارف الموفَّق يخضع لهذا العلاج ويُقِرُّ لمن جاء به بأنه أكمل الخلق على الإطلاق، وأنه مؤيد بوحي إلهي خارج عن القوى البشرية)) (3).
قلت: ومع ذلك نرى أمثال الغزالي المعاصر ينكر هذا الحديث ويطعن فيه ويرده بعقله وحدسه وأوهامه تبعاً لسلفه أبي رية الضال المضل، وأمثالهما، ولولا الإطالة لأثبتُّ كلامه المتهافت -هنا-.
((وقد ذكر غيرُ واحد من الأطباء أن لسع الزنبور(4) والعقرب إذا دُلِكَ موضِعه بالذُّباب نفع منه نفعاً بيناً، وسكنه، وما ذاك إلا للمادة التي فيه من الشفاء، وإذا دُلِكَ به الورم الذي يخرج في شعر العين المسمى (شَعْرَة) بعد قطع رؤوس الذباب أبرأه))(5).
قلت: فسبحان من أوحى إلى نبيه هذا العلم وهذا الطب الذي عجز عنه أطباء العالم وحذاقهم؛ بل لا زالوا ينكرون ويسخرون من أحاديثه؛ ولكن مهما طال الزمان أو قصر فسيذكرون هذه الحقائق الطبية النبوية؛ لتقوم عليهم حجة الله، ويُعلم صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنه لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى.
ولتعلمن نبأه بعد حين.
ومنه نعلم -أيضاً- أن الله لم يخلق الذباب عبثاً في كتابه، وإنما ليقيم الحجة بهذه المخلوقات الضعيفة على خلقه أجمعين، فهو مع ضعفه وصِغَره جمع الله فيه الداء والدواء، والسم الزعاف القتال، والترياق الشافي -بإذن الله-.
قال الله -تعالى-: { يَاأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ } .
وقد حقق الطبيبان المصريان محمود كمال ومحمد عبد المنعم حسين في هذا الحديث، فقالا: ))في سنة 1871م وجد الأستاذ الألماني (بريفلد) من جامعة هال بألمانيا أن الذبابة المنزلية مصابة بطفيلي من جنس الفطريات التي تسمى (امبوزاموسك)، وهو طفيلي يعايش الذبابة على الدوام، وبالتدقيق فيه وجده نوعاً من الفطريات التي تُسمى (انتوموقترالي)  تنتمي إلى الفطريات الأشنية المتحدة، وهذا الطفيلي يقضي حياته في الطبقة الدهنية الموجودة داخل بطن الذبابة، يشكل خلايا مستديرة فيها خميرة خاصة، لا تلبث هذه الخلايا بعد نضجها أن تخرج من بين حلقات بطن الذبابة، وتتكاثر البذور داخل الخلية، ويزداد ضغطها فتنفجر وتخرج البذور باندفاع شديد يصل إلى بعد (2سم) عن الخلية مصحوبة بالسائل الخلوي؛ لذلك إذا فحصنا ذبابة حية بالمكبرة نشاهد بذور الفطر حول الذبابة، والخلايا المنفجرة التي خرجت منها البذور على الثلث الأخير من بطن الذبابة وظهرها، وقد أيد العلماء المُحْدَثون ما اكتشفه (بريفلد)، وبينوا خصائص هذا الفطر الذي يعيش على بطن الذبابة، ففي سنة (1945م) أعلن أستاذ الفطريات (لانجيرون) أن الخلايا التي يعيش فيها هذا الفطر فيها خميرة (إنزيم) قوية تذيب أجزاء الحشرة الحاملة للمرض، وفي سنة (1947) عزل (موفيتش) صادَّات (مضادات حيوية) من مزرعة الفطريات التي تعيش على جسم الذبابة، ووجدها ذات مفعول قوي على جراثيم غرام سلبي كجراثيم الزحار والتيفوئيد وغيرها، ووجد أن (1 غم) منها يحفظ اكثر من ألف (لتر) من اللبن من التلوث بالجراثيم المذكورة، وفي نفس السنة تمكن العالمان الإنجليزيان (ارنشتين وكوك) والعالم السويسري (رولبوس) من عزل مادة جافاسين) من الفطور التي تعيش على الذباب، وتبين لهم أن هذه المادة مضادة حيوية تقتل جراثيم مختلفة من غرام سلبي وغرام إيجابي.
وفي سنة (1948م) تمكن (بريان وكورتيس) و(همينغ وحيقيرس) من بريطانيا من عزل مضادة حيوية أخرى سموها: (كلوتيزين) من الفطريات نفسها التي تعيش في الذباب، وهي تؤثر في جراثيم غرام سلبي كالتيفوئيد والزحار، وفي سنة (1949م) تمكن العالمان الإنجليزيان (كومس وفارمر) والسويسريون (جرمان وروت، وإثلنجر، وبلانتز) من عزل صادة (مضادة حيوية) أخرى من فطر ينتمي إلى فصيلة الفطور التي تعيش في الذباب سموها (أنياتين)، ولها أثر شديد في جراثيم غرام سلبي وغرام إيجابي كالتيفوئيد والكوليرا والزحار وغيرها.
فهذه الأبحاث كلها أجراها علماء كفار، وأخذناها نحن عنهم، ورددناها كالببغاوات، أين أبحاثنا نحن؟ أين الجامعات الإسلامية؟! أين مراكز بحوثها؟!! أين علماء المسلمين؟!
إن علماء الكفار لم يجروا أبحاثهم تلك على ضوء الحديث النبوي الشريف، وربما لم يطلعوا عليه ولم يعرفوه، وإنما أجروا أبحاثهم لمجرد البحث العلمي، وكشف المجهول؛ كما يجرون على كلّ شيء تقريباً: على الحيوانات، والفراشات، والأزهار، وعلى التراب، والأحجار، والصخور، لذلك أغفلوا نقطة هامة في البحث هي المَقْل: أي: الغمس، فلم يحللوا الذبابة وما حولها قبل المقل وبعده؛ ليعرفوا هل يخرج شيء جديد منها بعد المقل؟ فالحديث الشريف يقول: إن الذبابة تكون قبل المقل داء وتصبح بعده شفاء؛ إذن: فثمة شيء يخرج منها بمقلها، فما هذا الشيء؟!
هل ما اكتشفوه في الذبابة من الفطور التي تنتج الصادات (المضادات الحيوية) ؟ أم أن هناك شيئاً آخر -أيضاً- تفرزه الذبابة عند مقلها؟! ففي بعض روايات الحديث أن في أحد جناحيها سماً، وفي الآخر شفاء، والسم يحتاج إلى ترياق ليعدله ويمنع أذاه، لذلك لا بد من إعادة البحث والتحليل على ضوء الحديث الشريف، كأن نلقي الذبابة في الماء المقطر المعقم ثم يحلل ليعرف ما يحل فيه من الجراثيم، أو السموم ثم تمقل الذبابة فيه، ويحلل مرة أخرى؛ ليعرف ما حدث فيه بعد مقلها، أو تلقى الذبابة في مستنبت للجراثيم، ويحلل بعد مدة كافية ليعرف ما حل فيه من الجراثيم وما نوعها، ثم تمقل الذبابة فيه ويترك مدة كافية ليعرف ما حل فيه من الجراثيم، وما نوعها، ثم تمقل الذبابة فيه ويترك مدة كافية أخرى ثم يحلل ليعرف: هل هلكت الجراثيم التي حلت فيه قبل مقلها؟ وما نوع الصادة التي قضت عليها؟
إن علماء المسلمين القدماء لم يقصروا؛ فقد بحثوا  وجرّبوا على قدر الإمكانات التي كانت متاحة لهم فوجدوا أن دلك مكان لسعة العقرب والزنبور والذباب يسكن ألمها، وأن دلك مكان التهاب شعرة العين بالذباب يبرئها، ولعل ذلك سبب الصادة (المضادة الحيوية) الموجودة في الذبابة، وعلى مراكز بحوثنا الآن أن تكمل المشوار))(6).
إذن ((فالله -سبحانه وتعالى- لم يخلق شيئاً عبثاً(7) في هذه الدنيا، كل شيء خلقه فيه حكمة عرفها من عرفها، وجهلها من جهلها، وما جهل اليوم قد يعرف غداً، وكل الحيوانات التي خلقها -سبحانه وتعالى- جعل فيها أسلحة تدافع بها عن نفسها لتضمن بقاءها، منها بأنيابها وقوتها؛ كالحيوانات المفترسة، ومنها بمخالبها؛ كالطيور الجارحة، ومنها بخفّتها وسرعتها ولون جلدها كالحيوانات النباتية، ومنها بقرونها، ومنها بحوافرها،ومنها: بإطلاق رائحة كريهة كالظربان، ومنها باللسع ومنها باللدغ . . إلخ
والذباب شيء من هذه الأشياء يدافع عن نفسه باللسع والسمّيّة التي في أحد جناحيه، وبتكاثره الهائل، حيث تضع الذبابة الواحدة خلال فترة حياتها -وهي ثلاثة أسابيع- (900بيضة).
ولله في خلقه شؤون)) (8).
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ومنه تفريع صاحب ((حول تقسيم الذنوب إلى كبائر وصغائر)) (ص 41-42) على حديث ((لعن النبي × آكل الربا ومؤكله، وكاتبه وشاهديه)) مجموعة من (المحرمات)، قال: ((ويحرم -قياساً على هذا الأصل- كلُّ مُلابِسٍ لمُحرّم، فما كان محرّماً أكله يحرم بيعه، وشراؤه واقتناؤه، والكسب منه، وهبته، ويجب إتلافه إن كان محرّم العين كالخمرة والخنزير، وتغيير وصفه إن كان جائز الاستعمال في مادته من حيث الأصل؛ كدباغة جلد الميتة، وكالصليب يصاغ من الذهب أو الفضّة، فيصهر وتعاد صياغته بِحُليّ مما هو مباح، وما أشبه.
كما لعن رسول الله × قول الزور وشهادته، فإنه يُلحق به كل ما يمتُّ إليه بصلة، ويمكن ضبطه بأنه كل ما يستهدف به تزييف للحقيقة بإلباسٍ لها بالباطل، وهو مفسدٌ لشؤون الدنيا والدين، حتى صفّه الرسول ×  مع أكبر الكبائر)).
(2) أي: عدم تنجس الطعام بالغمس لا الغمس ذاته، فهو خاص بالذباب المعروف.
(3) ((زاد المعاد)) (4/111-112).
(4) المصدر السابق (4/112).
(5) دبور أصفر لسعته أشد من لسعة النحلة، مؤذية جداً.
(6) ((زاد المعاد)) (4/112-113).
(7) ((الحقائق الطبية في الإسلام)) (ص123-124) لعبدالرزاق الكيلاني. بشيء من التصرف.
(8) وقد ذكر الأطباء منافع واستطبابات للذباب، يُرجع إليها في كتب الطب القديمة خصوصاً.
(9) المصدر السابق (ص125) بتصرف.