حكم البحث عن الدفائن والكنوز من الأرض، وترك طلب العلم والعمل للنفقة على العيال بسبب ذلك؟! - جمعية مركز الإمام الألباني للدراسات والأبحاث

142 : حكم البحث عن الدفائن والكنوز من الأرض، وترك طلب العلم والعمل للنفقة على العيال بسبب ذلك؟!

رقم الفتوى
142
تصنيف الفتوى
الفقه
التاريخ
10/06/2018
السؤال :
يسأل الأخ من الجزائر عن حكم البحث عن الدفائن والكنوز من الأرض، وترك طلب العلم والعمل للنفقة على العيال بسبب ذلك؟!
الجواب :
الجواب:
الواجب الشرعي على الإنسان عدم تضييع من يعول، لقوله صلى الله عليه وسلم الصحيح: «كفى بالمرء إثماً أن يضيِّع من يعول»، وحصول الكسب بأي حرفة كانت أو صنعة لا بأس به، ولو تحصل على قليل كسب فهي عند الله والناس أفضل وأحسن من البطالة وبذل ماء الوجه للسؤال والطلب.
والواجب على طلبة العلم أن يحرصوا على أوقاتهم، وأن لا يصرفوها في شيء لا يعود عليهم بنفع في دين أو دنيا.
أما ترك طلب العلم - وهو واجب شرعي- والنفقة على العيال -وهو واجب شرعي آخر- بشيء مظنون، فهذا من خفة الأحلام وطيش العقول، ويعرض صاحبه للوقوع في الإثم على حسب نتيجته وثمرته، وقد يصاحب هذا البحث تصورات عن أمور غيبية ما أنزل الله بها من سلطان، وقد يعرِّض هذا البحث أصحابه للتعامل مع السَّحرة والمشعوذين، وقد كشف عن هذا كلّه بعض أهل العلم، ونسوق نقلين مهمين، لعل الله -عز وجل- ينفع بها الأخ السائل .
الأول: قال ابن خلدون -رحمه الله تعالى-:
«اعلم أن كثيراً من ضعفاء العقول في الأمصار يحرصون على استخراج الأموال من تحت الأرض ويبتغون الكسب من ذلك، ويعتقدون أن أموال الأمم السالفة مختزنة كلها تحت الأرض، مختوم عليها كلها بطلامس سحريّة لا يفضُّ ختامها ذلك إلا من عثر على علمه، واستحضر ما يحله من البخور والدعاء والقربان؛ فأهل الأمصار بأفريقية يرون أن الإفرنجة الذين كانوا قبل الإسلام بها دفنوا أموالهم كذلك، وأودعوها في الصحف بالكتاب إلى أن يجدوا السبيل إلى استخراجها، وأهل الأمصار بالمشرق يرون مثل ذلك في أمم القبط والروم والفرس، ويتناقلون في ذلك أحاديث تشبه أحاديث خرافة من انتهاء بعض الطالبين لذلك إلى حفر موضع المال ممن لم يعرف طلسمه ولا خبره؛ فيجدونه خالياً أو معموراً بالديدان، أو يشاهد الأموال والجواهر موضوعاً والحرس دونها منتضبين سيوفهم، أو تميد به الأرض حتى يظنه خسفاً أو مثل ذلك من الهذر.
ونجد كثيراً من طلبة البربر بالمغرب العاجزين عن المعاش الطبيعي وأسبابه يتقربون إلى أهل الدنيا بالأوراق المتحزمة الحواشي، إما بخطوط عجمية، أو بما ترجم بزعمهم منها من خطوط أهل الدفائن بإعطاء الأمارات عليها في أماكنها، يبتغون بذلك الرزق منهم بما يبعثونه على الحفر والطلب! ويموهون عليهم بأنهم إنما حملهم على الاستعانة بهم طلب الجاه في مثل هذا من منال الحكام والعقوبات، وربما تكون عند بعضهم نادرة أو غريبة من الأعمال السحرية يموه بها على تصديق ما بقي من دعواه وهو بمعزلٍ عن السحر وطرقه، فَتَولَّع كثيرٌ من ضعفاء العقول بجمع الأيدي على الاحتفار، والتستر فيه بظلمات الليل مخافة الرقباء وعيون أهل الدّولة، فإذا لم يعثروا على شيء؛ ردوا ذلك إلى الجهل بالطلسم الذي خُتِم به على ذلك المال يخادعون به أنفسهم على إخفاق مطامعهم، والذي يحمل على ذلك في الغالب زيادة على ضعف العقل إنما هو العجز عن طلب المعاش بالوجوه الطبيعية للكسب من التجارة والفلح والصناعة؛ فيطلبونه بالوجوه المنحرفة وعلى غير المجرى الطبيعي من هذا وأمثاله عجزاً عن السعي في المكاسب، وركوناً إلى تناول الرّزق من غير تعب ولا نصب في تحصيله واكتسابه، ولا يعلمون أنَّهم يوقعون أنفسهم بابتغاء ذلك من غير وجهه في نصبٍ ومتاعبَ وجُهدٍ شديد أشدَّ من الأول، ويعرِّضون أنفسهم مع ذلك لمنال العقوبات، وربما يحمل على ذلك في الأكثر زيادة الترف وعوائده وخروجها عن حدّ النهاية حتى تُقتصر عنها وجوه الكسب ومذاهبه ولا تفي بمطالبها، فإذا عجز عن الكسب بالمجرى الطبيعي؛ لم يجد وليجةً في نفسه إلا التمني لوجود المال العظيم دفعةً من غير كلفة ليفي ذلك له بالعوائد التي حصل في أسرها؛ فيحرص على ابتغاء ذلك ويسعى فيه جهده، ولهذا ؛ فأكثر من تراهم يحرصون على ذلك هم المترفون من أهل الدولة ومن سكان الأمصار الكثيرة التعرف المتسعة الأحوال مثل مصر وما في معناها، فنجد الكثير منهم مغرمين بابتغاء ذلك وتحصيله، ومساءلة الركبان عن شواذه؛ كما يحرصون على الكيمياء، هكذا بلغني عن أهل مصر في مفاوضة من يلقونه من المغاربة لعلهم يعثرون منه على دفينٍ أو كنزٍ، ويزيدون على ذلك البحث عن تغوير المياه لما يرون أن غالب هذه الأموال الدفينة ملها في مجاري النيل، وأنُّه أعظم ما يستر دفيناً أو مختزناً في تلك الآفاق ويموه عليهم أصحاب تلك الدفاتر المفتعلة في الاعتذار عن الوصول إليها بجرية النيل تستّراً بذلك من الكذب حتى يحصل على معاشه؛ فيحرص سامع ذلك منهم على نضوب الماء بالأعمال السحرية لتحصيل مبتغاه من هذه كلفاً بشأن السحر، متوارثاً في ذلك القطر عن أوليه؛ فعلومهم السحرية وآثارها باقية بأرضهم في البراري وغيرها، وقصة سحرة فرعون شاهدة باختصاصهم بذلك…».
إلى قوله: وقد بيَّن كذب هؤلاء المراوغين وتدليسهم في أخذ الأموال بحجة شراء العقاقير والبخورات لحل الطلاسم.
قال: «واعلم أن الكنوز وإن كانت توجد لكنها في حكم النادر، وعلى وجه الاتفاق لا على وجه القصد إليها، وليس ذلك بأمر تعم به البلوى حتى يدَّخر الناس أموالهم تحت الأرض ويختمون عليها بالطلاسم؛ لا في القديم ولا في الحديث، والركاز الذي ورد في الحديث وفرضه الفقهاء وهو دفين الجاهلية؛ إنما يوجد بالعثور والاتفاق، لا بالقصد والطلب، وأيضاً من اختزن ماله وختم عليه بالأعمال السحرية فقد بالغ في إخفائه؛ فكيف ينصب عليه الأدلة والإشارات لمن يبتغيه، وتكتب ذلك في الصحائف حتى يطلع على ذخيرته أهل الأمصار والآفاق، هذا يناقض قصد الإخفاء، وأيضاً؛ فأفعال العقلاء لا بد أن تكون لغرض مقصود في الانتفاع، ومن اختزن المال ؛ فإنه يختزنه لولده أو لقريبه أو من يؤثره، وأما أن يقصد إخفاءه بالكلية عن كل أحد، وإنما هو للبلاء والهلاك أو لمن لا يعرفه بالكلية ممن سيأتي من الأمم ؛ فهذا ليس من مقاصد العقلاء بوحه، وأما قولهم: أين أموال الأمم من قبلنا، وما عُلِمَ فيها من الكثرة والوفور؛ فاعلم أن الأموال من الذهب والفضة والجواهر والأمتعة إنما هي معادن ومكاسب مثل الحديد والنحاس والرصاص وسائر العقارات والمعادن والعمران، يظهرها بالأعمال الإنسانية ويزيد فيها أو ينقصها، وما يوجد منها بأيدي الناس؛ فهو متناقل متوارث وربما انتقل من قطر إلى قطر ومن دولة إلى أخرى بحسب أغراضه والعمران الذي يستدعي له، فإن نقص المال في المغرب وأفريقية؛ فلم ينقص ببلاد الصقالبة والإفرنج، وإن نقص في مصر والشام ؛ فلم ينقص في الهند والصين، وإنما هي الآلات المكاسب والعمران يوفرها أو ينقصها، مع أن المعادن يدركها البلاء كما يدرك سائر الموجودات، ويسرع إلى اللؤلؤ والجوهر أعظم مما يسرع إلى غيره، وكذا الذهب والفضة والنحاس والحديد والرصاص والقصدير ينالها البلاء والفناء ما يذهب بأعيانها لأقرب وقت، وأما ما وقع في مصر من أمر المطالب والكنوز؛ فسببه أن مصر في ملكة القبط منذ آلاف أو يزيد من السنين، وكان موتاهم يدفنون بموجودهم من الذهب والفضة والجوهر واللآلئ على مذهب من تقدم من أهل الدولة، فلما انقضت دولة القبط وملك الفرس بلادهم نقَّروا على ذلك في قبورهم، فكشفوا عنه، فأخذوا من قبورهم ما لا يوصف كالأهرام من قبور الملوك وغيرها، وكذا فعل اليونانيون من بعدهم، وصارت قبورهم مظنّةً لذلك لهذا العهد، ويعثر على الدفين كثيراً من الأوقات، أما ما يدفنونه من أموالهم أو ما يكرمون به موتاهم في الدفن من أوعية وتوابيت من الذهب والفضة معدّة لذلك، فصارت قبور القبط منذ آلاف من السنين مظنّة لوجود ذلك فيها، فلذلك عني أهل مصر بالبحث عن المطالب لوجود ذلك فيها واستخراجها حتى إنهم حين ضربت المكوس على الأصناف آخر الدولة ؛ ضربت على أهل المطالب، وصدرت ضريبة على من يشتغل بذلك من الحمقى والمَهوّسين، فوجد بذلك المتعاطون من أهل الأطماع الذّريعة إلى الكشف عنه، والذُّرَع باستخراجه وما حصلوا إلا على الخيبة في جميع مساعيهم، نعوذ بالله من الخسران ؛ فيحتاج من وقع له شيءٌ من هذا الوسواس وابتُليَ به أن يتعوَّذ بالله من العجز والكسل في طلب معاشه، كما تعوذ رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك، وينصرف عن طرق الشيطان ووسواسه، ولا يشغل نفسه بالمحالات والمكاذِب من الحكايات، والله يرزق من يشاء بغير حساب» انتهى .[ «مقدمة ابن خلدون» ( ص 384 ـ 389 )]
الآخر: ما قاله أبو حيان في تفسيره «البحر المحيط» عند قول الله تعالى { فَأَخْرجناهُم مِنْ جَنّاتٍ وعُيون وكُنوزٍ ومَقامٍ كَريم} أن المراد بالعيون عيون الماء، وقيل : هي عيون الذهب، وأنّ الكنوز هي كنوز المقطَّم ومطالبُه، قال ابن عطية : هي باقية إلى اليوم.
يقول ابن حيان ( ت 745 هـ ) -شاكياً هذا الصنف من الناس ومبيّناً بلهه-: «وأهل مصر في زماننا في غاية الطلب لهذه الكنوز التي زعموا أنها مدفونة في المقطم ؛ فينفقون على حفر هذه المواضع في المقطم الأموال الجزيلة، ويبلغون في العمق إلى أقصى غاية، ولا يظهر لهم إلا التراب أو حجر الكذّان الذي المقطم مخلوق منه، وأي مغربي يرد عليهم سألوه علم المطالب(*)؛ فكثير منهم يضع في ذلك أوراقاً ليأكلوا أموال المصريين بالباطل، ولا يزال الرجل منهم يذهب ماله في ذلك حتى يفتقر، وهو لا يزداد إلا طلباً لذلك حتى يَموت، وقد أقمت بين ظهرانيهم إلى حين كتابة هذه الأسطر نحواً من خمسة وأربعين عاماً، فلم أعلم أن أحداً منهم حصل على شيء غير الفقر، وكذلك رأيهم في تغوير المياه، يزعمون أن ثم آباراً، وأنه يكتب أسماء في شقفة، فتلقى في البئر فيغور الماء، وينزل إلى باب في البئر يدخل منه إلى قاعدة مملوءة ذهباً وفضة وجواهر وياقوتاً، فهم دائماً يسألون من يرد من المغاربة عمن يحفظ تلك الأسماء التي تكتب في الشقفة، فيأخذ شياطين المغرب منهم مالاً جزيلاً ويستأكلونهم، ولا يحصلون على شيء غير ذهاب أموالهم».
ثم يقول أبو حيان : «ولهم أشياء من نحو هذه الخرافات، ويركنون إليها ويقولون بها، وإنما أَطَلْتُ في هذا على سبيل التحذير لمن يعقل».
والله الموفق والهادي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) يقصد بالمطالب هنا الأماكن التي تطلب فيها الكنوز، وأهل الطلب محاولة وجدان الشيء، وأخذه؛ كما في «تاج العروس» قاله عبد السلام هارون في كتابه «كناشة النوادر» ( 111 ).